العدد 1548 /1-2-2023

أحمد عمر

طُردت شعوب عربية كثيرة من ديارها؛ نزح الشعب الفلسطيني، تلاه العراقي، ثم السوري والليبي واليمني. فقد نزح ملوك وهاجر رؤساء قبل نزوح الشعوب من أوطانهم، وقديماً قال المتنبي: "إذا ترحلت عن قومٍ وقد قدروا.. ألا تفارقهم فالراحلون همُ". والترف أعلى منازل الهجر والترحّل والنزوح.

وكان سبب انطلاق نيران ثورات الربيع العربي من مستصغر الشرر، وهو أنَّ شرطة تونس حرمت بائع خضار على عربة متجولة من مكان في بلده، فضاقت به الأرض بما رحبت، فأحرق نفسه غيظاً وكمداً وثورة، والحرق عقوبة الله، فلا يحرق بالنار سوى رب النار. وفي الآثار أن حصين بن عمران، الملقب بمصافح الملائكة، هجرته الملائكة بعد أن اكتوى. ثم كان أن فرّ زين العابدين بن علي خوفاً من غضبة الشعب التونسي إلى جدّة، منفى الزعماء ومنتجع الملوك الظالمين.

أما أحد أسباب انطلاق الثورة السورية واستقرارها في حمص، التي سمّيت بعاصمة الثورة، فهو أنَّ حكّام حمص بشّروا بالنزوح الرسمي والعمراني من المدينة القديمة، وبناء مدينة جديدة على الطرف العلوي منها باسم "حلم حمص"، فذعر أهل المدينة القديمة، وكان ذلك إيذاناً بقتل المدينة القديمة، وإيلائها الوافدين من القرى والأرياف والغزاة من أصحاب الأموال المغسولة من دماء الشعوب. فالمدينة القديمة مدينة سنّة، وهي مثوى الصحابة، ومدينة خالد بن الوليد الذي زحف مائة زحف ولم يهزم قط!

وقد انطلق سباق عمراني في عواصم العالم العربي بعد القضاء على الربيع العربي لبناء مدن فضائية، مدن "يوفو"، على غرار "إرم ذات العماد" و"مدينة النحاس" في الحكايات، مدن ينطبق عليها قول المغني المصري في أغنية دقّوا الشماسي: "لابني لك قصر عالي".

النهاية المعلنة للسباق هي سنة 2030، وقد أعلن ولي العهد السعودي بناء مدينة نيوم على البحر الأحمر، التي تبشر التقارير الحالمة بأنها أول مدينة فضائية على الأرض، وتوصف بأنها ستكون أذكى مدينة في الكوكب، وسيكون سكانها من الأذكياء. ستكون أكبر من نيويورك بـ33 مرة، وأحدث من برلين بعشر مرات. ستكون مدينة أفقية ممتدة مثل الثعبان وسكة القطار، مسوّرة بسورين مانعين للعواصف الرملية والحرافيش، يسكنها مليون نسمة لا غير، بحسب عدد "المقاعد والركاب"، نصف مقاعدها بجانب النافذة. وستبنى في البادية على "بلاج" البحر الأحمر، الأحمر من لون المرجان في الماء وليس من لون العذاب في الشرايين.

ومِن العجائبِ، والعَجائبُ جَمَّة، أن نيوم اسمها إغريقي مركّب، فيه حرف عربي واحد يتيم مكتوب بالأحرف اللاتينية، ومؤخر إلى ذيل الاسم، في العتبة، قيل إنه من لفظ المستقبل وقيل إنه من اسم ولي العهد.

القدس مدينة مهددة بالانتقاض والهدم، لكنها ما تزال صابرة وصامدة، وتذكر تقارير إخبارية ما جرى لآثار النبوة وحجرات أمهات المؤمنين، التي هُدمت كلها في مكة خوفاً من الشرك على ما يزعمون. والحفر يجري من تحت القدس بحثا عن آثار مزعومة، وقد صدرت آراء لشيوخ المداخلة تصف قبة الصخرة بالوثن، فالمداخلة يتورعون عن الشرك بالملك وولي عهده خوفا من النار.

أما في مصر التي دخلت سباق رالي المدن الفضائية، فقد أنفق رئيس مصر الانقلابية مليارات الدولارات على العاصمة الإدارية الجديدة، وفيها ناطحات سحاب في منطقة مفتوحة، وهي مبنية في الصحراء أيضاً ليس على معهود المدن قريبا من مياه الأنهار أو البحار. سينزح إليها الزعيم الوسيم والموظفون الكبار، مخلفين الشعب في القاهرة القديمة في الفقر والجوع والمرض والجهل.

وقد غدت مدن الإمارات الكبرى مثل أبو ظبي ودبي مدناً عمودية، والامتداد الأفقي أولى وأكرم، وكان العمود قد صار مبغوضاً في القصيد والشعر، وسبّة، لكنه أمسى مستحباً في البنيان والحجر، وهي مدن بوليسية على غرار بيونغ يانغ، تراقب فيها المخابرات همسات العصافير على وسائل التواصل، خوفا من زلازل تعصف بالمدينة مع أنها خالية من عربات خضار.

في كل حضارة جديدة قصة مدينتين؛ أسبرطة وطروادة، مكة والمدينة، باريس ولندن، قندهار وكابل، برلين وبون، كييف وموسكو، دمشق والكوفة. وكان ولي العهد السعودي قد توعّد بمحاربة التطرف حتى صفقت له المذيعة الإنجليزية، في مخالفة لشروط مهنة الإعلام وحيادها. وقد صارت مدائن صالح -مساكن الذين ظلموا- مثابة لعروض الرقص والحفلات.

تدمير الذاكرة هو القصد والغاية: "ماما وبابا دقة قديمة دقة قديمة دقة قديمة، ماما وبابا دقة قديمة".

مدن السكّر والزجاج، و"دقّوا الشماسي" واعدة بالكوابيس، شامخة القضاء، القاضي فيها يؤجل العدل للصيف الماضي!