مفارقات العلاقات المغربية ــ الجزائرية
العدد 1476 /1-9-2021
علي أنوزلا
تمرّ العلاقات المغربية الجزائرية بواحدة من أسوأ مراحلها، بعد أن قرّرت الجزائر، في 24 الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، من جانب واحد، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب، الأنر الذي اضطر الرباط إلى سحب سفيرها وإغلاق سفارتها في الجزائر. وهذا التطور وإن كان مفاجئا وصادما لكثيرين، إلا أنه تحصيل حاصل، لأن العلاقات بين البلدين تكاد تكون شبه مقطوعة منذ عدة عقود، فالبلدان في حالة عداء منذ حرب الرمال بينهما عام 1963، وجاء اندلاع نزاع قضية الصحراء عام 1975، وحربها التي لم تتوقف بصفة رسمية، لتجعل شرارة العداء متوهجة بينهما طيلة العقود الأربعة الماضية. كما أن الحدود البرّية بينهما مغلقة بقرار جزائري منذ 1994. أما الحملات الإعلامية المسعورة من الجانبين فلم تتوقف منذ ستينات القرن الماضي، تدق طبول الحرب تارة وتؤجج المشاعر الوطنية الشوفينية من الجانبين، لتبقى على نار العداء متوهجة بين شعبيهما.
وفي قاموس العلاقات الدولية، تعتبر العلاقات المغربية الجزائرية من أكثر علاقات بلدين جارين معقدة ومركّبة، يتداخل فيها التاريخي والجغرافي والبشري والجيواستراتيجي والنفسي، ويتقاطع فيها السياسي مع الاقتصادي والاجتماعي والبشري. علاقات لا يكاد يوجد مثيل لها بين دولتين جارتين تتقاسمان الجغرافيا واللغة، بل وحتى اللهجة المحلية، والأنساب، والكفاح المشترك. علاقة كلها مفارقاتٌ صارخةٌ يصعب فهم تحولاتها وسرعة تقلبها، وفي الوقت نفسه تكلسها وانغلاقها وتشنجاتها في أحيانٍ كثيرة. هي بكل تأكيد، علاقات فريدة من نوعها في كل شيء، قريبة من الحرب وبعيدة عن السلم، يتجاذبها تنافسٌ غير منتج، في وقت تفيد فيه كل المؤشرات بوجود تكامل بين الدولتين، يمكن أن تجني ثمارَه منطقة المغرب العربي كلها. وعلى المستوى الشعبي، خارج تأثير الحملات الإعلامية الدعائية من الجانبين، ما يجمع الشعبين، المغربي والجزائري، أكثر مما يفرق بينهما، وشعار "خاوة خاوة"، هو الذي تلهج به الجماهير من الجانبين في كل مناسبة تُتاح لها الفرصة للتعبير عن رأيها بتلقائية وحرية، بعيدا عن الحسابات السياسية والصراعات الجيواستراتيجية التي أنهكت اقتصاد البلدين وأفقرت شعبيهما.
وعودة إلى حالة التوتر الحالية، حتى عندما ننظر إلى الأسباب التي اعتمدت عليها الجزائر لتبرير قرار قطع علاقاتها الدبوماسية مع المغرب، فهي ليست طارئة على علاقات متوترة دوما، فحالة العداء التي استند إليها القرار الجزائري موجودة في قاموس التنابز الإعلامي بينهما عقودا طويلة، بل إن حالة العداء قائمة بينهما منذ قرّرت الجزائر دعم جبهة البوليساريو، المطالبة باستقلال إقليم الصحراء، سياسيا وعسكريا، وفتحت لها معسكرات في الجنوب الجزائري لشن حربها ضد المغرب، وهي الحرب المستمرّة منذ أكثر من 46 سنة. لذلك، التطور المأساوي لهذه العلاقات في الفترة الأخيرة، بقدر ما هو نتيجة تراكم مجموعة من الخلافات القديمة بين البلدين، هو أيضا تعبير عن حالة احتدامٍ حادّ في التنافس الإقليمي بينهما، والذي شكّل أحد الأسباب الرئيسية والعميقة لعدم استقرار علاقات هذين البلدين الجارين، أجّجه اعتراف إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بسيادة المغرب على إقليم الصحراء، وهو القرار الذي لم تلغه إدارة الرئيس بايدن، كما كانت تأمل ذلك الدبلوماسية الجزائرية، وزاد الأمر تعقيدا تطبيع المغرب علاقاته مع إسرائيل، ما أجّج مخاوف الجزائر من التغلغل الإسرائيلي في المنطقة. من دون أن ننسى تأثير الوضع الداخلي المتوتر في الجزائر منذ اندلاع الحراك الشعبي عام 2019، وعدم تحقيق مطالب الشارع الجزائري الغاضب، وتفاقم الوضع الاقتصادي في البلد جرّاء أزمة كورونا وتداعياتها المتواصلة، وتدهور أسعار المحروقات التي تعتبر أهم صادرات الجزائر، فقد عودتنا الجزائر والرباط، معا على استدعاء الروح الوطنية لمواطنيهما، لصرف انتباه شعبيهما عن الصعوبات الداخلية، وأسهل طريق لإذكاء هذا الشعور الوطني الشوفيني من الجانبين تصعيد التوتر بينهما.
ولكن في السياق الإقليمي الحالي، من المحتمل أن يكون للتصلّب الجزائري ــ المغربي الحالي عواقب سلبية على المنطقة بأكملها، في لحظةٍ تمر فيها التجربة الديمقراطية التونسية الفتية بمرحلة اختبار صعبة، وتشهد فيها ليبيا حربا أهلية مفتوحة على كل الاحتمالات، مع ما يمكن أن يترتّب عن ذلك من زرع لحالة من عدم اللااستقرار في المنطقة المغاربية برمتها، وأكثر من ذلك العودة إلى حالة النكوص الديمقراطي ما قبل الربيع العربي، وتحجيم الهامش الضيق للحريات الذي حاولت الاحتجاجات الشعبية في كل بلدان المغرب العربي رفع سقفه. لذلك اللحظة اليوم هي الوقت المناسب لترتفع الأصوات الحكيمة داخل صفوف المجتمع المدني وبين المثقفين النزهاء، وصناع الرأي العام في البلدين، للتنبيه إلى حالة اليأس الجديدة التي دخلتها العلاقات المغربية ــ الجزائرية، ووقف التدحرج الدراماتيكي للخطاب الإعلامي بين البلدين، قبل أن يلقي بالجميع إلى الهاوية، فمصير المغرب والجزائر واحد، ومستقبلهما لن يكون إلا معا، وتقاربهما سيكون في خدمة شعبيهما وشعوب المنطقة، ويكفي أن الخلاف المغربي ــ الجزائري هو أكبر معطّل لاتحاد المغرب العربي الذي تهاب دول الاتحاد الأوروبي قيامه، لأنه سيكون أكبر منافس اقتصادي له جنوب غرب المتوسط. ومهما طال أمد الأزمة الحالية بين البلدين، فهي إلى زوال، لأن ما يجمع بين البلدين أكبر حتى من الجغرافيا التي وضعتهما في الرقعة نفسها وإلى الأبد.