العدد 1627 /28-8-2024
عزام التـميمي
تظهر من حين لآخر
دعوات تطالب جماعة الإخوان المسلمين المصرية بالتقدم بمبادرة للمصالحة مع النظام
في القاهرة عسى أن يمهد ذلك سبيلاً لإطلاق سراح عشرات الآلاف من المعتقلين، ولطي
صفحة مؤلمة في تاريخ مصر المعاصر. قد تصدر هذه الدعوات عن أعضاء في جماعة الإخوان
أو عن أفراد مقربين من الحركة أو عن آخرين ممن يشفقون على مصر وأهلها استمرار هذا
الحال. ورغم ما يفترض في كل هؤلاء من حسن نية، ورغبة صادقة في وضع حد لمعاناة
عشرات الآلاف من العائلات المصرية في الداخل والخارج، إلا أن هذه الدعوات تنم عن
سذاجة بالغة، وتصدر عن توهم عميق، ويجد فيها خصوم الإخوان دوماً فرصة للانقضاض
مجدداً على الجماعة، معملين فيها حرابهم وسهامهم.
إن من السذاجة ألا يرى
المرء أن النظام في مصر لا يعير أياً من هذه المبادرات أي اهتمام، سواء جاءت من
قبل الإخوان أو من قبل غيرهم. فهو لا يشعر بحاجته إلى تقديم أي تنازلات لخصومه أو
منتقديه مهما كانت تنازلاتهم له كبيرة. فالنظام الذي تمكن من الانقلاب على
الديمقراطية بتمويل خليجي ورعاية أوروبية أمريكية، ومضى ليبطش بكل من اعتبرهم
خصوماً له وفي مقدمتهم جماعة الإخوان المسلمين، والذي مازال رغم كل جرائمه ضد
الإنسانية يتمتع بدعم إقليمي ودولي حاسم، ويحظى بغطاء سياسي ودبلوماسي عالمي
(وصهيوني بالدرجة الأولى)، لا يجد نفسه محتاجاً لمصالحة أحد من المصريين، ناهيك عن
أن يشركهم معه في إدارة شؤون البلاد، سواء كانوا من الإخوان أو من غيرهم.
لا ريب أن كل من غُيّب
له وراء القضبان أو شُرّد له في الأرض قريب يعز عليه، يتمنى لو أنه يتمكن من إيجاد
وسيلة تفضي إلى تحرير أسيره أو لم شمله على عزيزه، لكن التمني شيء والتوهم شيء
آخر. ومن التوهم الظن بأن الأنظمة الطاغوتية تنظر بعين العطف أو الشفقة إلى
المكلومين والمحرومين والمستضعفين، وأنها يمكن أن تعيد النظر في أسلوب تعاملها
معهم ما لم تتغير موازين القوة بما يكفي لأن تصبح مضطرة إلى التغيير.
تبلغ السذاجة ببعض
المبادرين أن يقترح على جماعة الإخوان المسلمين اعتزال العمل السياسي وعدم المنافسة
على السلطة بأي شكل من الأشكال، وكأنما هو ضامن لها بذلك حتمية تجاوب النظام مع
هذا التنازل، وكأنما المشكلة منحصرة في الخصومة بين الجماعة والنظام. والحقيقة هي
أن المشكلة في أصلها ليست بين النظام وفئة بعينها، بل بين نظام مستبد جائر وجل
أبناء الشعب المصري، الذين سلبوا حقوقهم، ومنها حقهم في اختيار من يحكمهم، وصودرت
حرياتهم، ومنها حريات التعبير والحركة والتجمع، وباتوا جميعاً رهائن لدى عصابة
استولت على الحكم دون وجه حق، عصابة لا ترقب في مصري، مسلم أو قبطي، إسلامي أو
علماني، إلّا ولا ذمة.
إن الطاغية المتمكن لا
يقبل من أحد من الناس في بلده أقل من الخنوع والخضوع. ولطالما حاول أشخاص وحاولت
أطراف حسنة النوايا مع نظام حافظ الأسد في سوريا، الذي جاء بانقلاب عسكري وجثم على
صدور السوريين إلى أن مات، ومن بعده مع نظام ابنه الذي وُرّث السلطة ظلماً
وعدواناً، فخاب رجاؤهم وعادوا بخفي حنين، لأن النظام كان دوماً يصر على وجوب أن
يقر ضحاياه بأنهم المذنبون، وعلى أن يأتوا إليه تائبين طائعين مبايعين، وعلى أن
يعلنوا براءتهم من الجماعة التي كانوا يوماً إليها ينتسبون.
وإخوان مصر كما إخوان
سوريا لم يكونوا هم من بادر بالإساءة أو العدوان، بل كانوا دوماً يناضلون من أجل
الحرية والكرامة لهم ولكل واحد من أبناء الوطن المغتصب، فسامهم الطاغية العذاب،
فاعتقل وقتل وشرد منهم الآلاف المؤلفة، ثم يأتي من بعد ذلك ويطلب منهم التوبة
والاعتذار والولاء.
يتوهم من يظن أن نظام
السيسي في مصر يمكن أن يقبل بأقل من ذلك، وقد رأينا كيف تعامل مع من قرروا العودة
من المهاجر إلى الوطن، فإما أنهم زُجّ بهم في السجون، أو رضخوا لما طُلب منهم
فتحولوا إلى أبواق للنظام، ينشرون الكذب والافتراءات ضد ضحاياه، ويبررون جرمه
وإفساده، ويطعنون في الظهر كل من أحسن إليهم في منافيهم.
ليس مستغرباً من فرد
فترت عزيمته، ونال منه الإرهاق، أن يساوم كما يشاء، رجاء أن يُسمح له بحياة ما،
حتى لو كانت مهينة غير كريمة. ولكن لا يجوز بحال أن تفكر بشيء من ذلك قيادة حركة
اجتماعية سياسية نذرت نفسها ابتداءً لغاية سامية ولخدمة قضية نبيلة، ألا وهي
النضال من أجل حرية الأمة وكرامتها وسيادتها.
إن الذين يظنون أن
الحرية والكرامة يمكن أن تُهدى إليهم على طبق من فضة أو طبق من ذهب يتوهمون.
اقرأوا التاريخ، ولسوف تجدون أنه لم يحدث في تاريخ البشر أن انتصرت أمة على من
قهرها وأذلها، أو استعبدها، إلا بالتضحيات الجسام.
من لا يقدر على تحمل
تبعات الانتصار للحق والعدل فهذا شأنه، أما الفكرة، أما القضية، فسوف يبعث الله
لها من يحمل رايتها، وينتصر لها، ويعتز بها. "وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم
ثم لا يكونوا أمثالكم."