العدد 1682 /24-9-2025
محمد يوسف
يوم الجمعة الماضي 19 سبتمبر/أيلول 2025، امتلأت
سماء شمال شرق الصين بهدير محركات الطائرات النفاثة وخطوط الدخان الملوّنة، معلنة
انطلاق معرض تشانغتشون الجوي لعام 2025 تحت شعار "ملاحقة الأحلام في السماء..
ضمان النصر للمستقبل".
وفي عرض مشوق تحاول به الصين إبراز تصاعد قوة
البلاد الجوية، تابع آلاف المتفرجين بانبهار أسراب الطائرات الحربية الحديثة -من
المقاتلات الشبحية إلى القاذفات الثقيلة- وهي تشق السماء في تشكيلات دقيقة.
يمتد المعرض على مدار خمسة أيام، بتنظيم من سلاح
الجو الصيني ضمن فعاليات "اليوم المفتوح". أتاحت نسخة هذا العام من
المعرض للجمهور لمحة غير مسبوقة عن أحدث إنجازات البلاد في الطيران العسكري
ومهاراتها الاستعراضية.
بداية بأول عرض علني للمقاتلة الشبحية المتطورة
جيه-20 أمام الجمهور على الأرض، مرورًا بالاستعراضات المعقدة التي شاركت فيها
طائرات التزود بالوقود والمسيّرات، يرسم المعرض صورة عن ثقة بكين المتزايدة
بقدراتها على إبراز قوتها الجوية ومهاراتها المتطورة في هذا المجال.
العرض الأول
يشير توقيت هذا العرض، بعد أسابيع من الاستعراض
العسكري الوطني في الذكرى 80 للانتصار في الحرب العالمية الثانية، إلى وجود خطة
منسقة لإبراز أحدث أنظمة الطيران الصينية، مانحًا الجمهور والمراقبين الأجانب فرصة
للاطلاع على معدات لم تُعرض سابقًا إلا لفترات وجيزة.
وفي مركز الاهتمام برزت المقاتلة الشبحية
"جيه-20" التي تُعد أرقى طائرة قتالية في ترسانة الصين. ورغم سابقة
الكشف عنها في عام 2016، في معرض الصين الدولي للطيران والفضاء، فإن هذه هي المرة
الأولى التي تظهر إحداها على الأرض ليتسنى للجمهور تأملها عن قرب بعد عرض جوي
لافت.
كما أتيح للخبراء والهواة ملاحظة تفاصيل المقاتلة
عن قرب، وذكر محلل عسكري صيني لصحيفة "غلوبال تايمز" أن الكشف العلني عن
تلك التفاصيل يدل على امتلاك الصين نسخًا متطورة من الطائرات الحربية، مثل نسخة
"جيه-20 أي" والنسخة ثنائية المقعد "جيه-20 إس"، وهذا مؤشر
على تطور تقنيات الجيل الأساسي من المقاتلة الشبحية.
إلى جانب ذلك، شهد المعرض أول ظهور علني لعدد من
الطائرات غير المأهولة التي تعكس القفزة السريعة للصين في تكنولوجيا المسيّرات.
فقد عُرضت طائرات مسيّرة متطورة -بعضها يعمل بالذكاء الاصطناعي أو بالتحكم عن
بُعد- إلى جانب المقاتلات المأهولة، في إشارة إلى أن الصين تسعى لتطوير قدراتها
نحو أنماط الجيل القادم من الحروب الجوية.
ومن الأمثلة على ذلك مفهوم "الجناح
المخلص" الذي قُدم عبر مقطع رسوم متحركة، ويعكس رؤية لعمليات مشتركة بين
الطائرات المأهولة وغير المأهولة. فعرض المقطع إحدى الطائرات المسيّرة وهي تؤدي
دور "الجناح المخلص" إلى جانب مقاتلة "جيه-20″، ما يعكس اتجاه الصين نحو تطوير مفاهيم القتال المشترك بين المأهول وغير المأهول، بنفس توجهات الجيوش الغربية.
كما تأكدت في المعرض شائعة قديمة تتعلق بتحويل
المقاتلات المتقادمة إلى طائرات مسيّرة. فقد ظهر نموذج غير مأهول من المقاتلة
"جيه-6" التي تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، ويُعد ذلك أول إعلان رسمي
عن تهيئة تلك المقاتلات المتقاعدة لاستخدامات غير مأهولة، قد تشمل دور الأهداف
الخداعية أو الأسراب الهجومية منخفضة التكلفة، ما قد يمثل أهمية في أي سيناريو
محتمل بمضيق تايوان.
عروض جوية
في تلك الأجواء، نفّذ الطيارون الصينيون عروضًا
جوية صُممت لتُظهر قوة الاستعراض والقدرة القتالية معًا. فبعد لحظات من انتهاء
مراسم الافتتاح، أعلن هدير عميق وصول تشكيل من قاذفات "إتش-6" التي
اخترقت السماء، إذ نفّذت قاذفتان من طراز "إتش-6 كي" -وهي قاذفات
استراتيجية بعيدة المدى- مرورًا منخفضًا فوق ساحة العرض.
وبعد دقائق من مرور القاذفات، ظهرت طائرة الإنذار
المبكر والسيطرة الجوية "كي جيه-500″، ترافقها 4 مقاتلات شبحية من طراز "جيه-20" في تشكيل منظم. اصطفت المقاتلات الأربع
إلى جانب الطائرة التوربينية الأبطأ، ثم نفذت مناورة تبادلية تكتيكية عكست أسلوب
التنسيق بين الأنواع المختلفة من الطائرات.
رسم هذا التشكيل صورة عن كيفية تأمين المقاتلات
الشبحية لطائرة استطلاع عالية القيمة، في سيناريو يحاكي التدريبات القتالية.
واستندت بعض هذه العروض إلى سيناريوهات قتال فعلية يجري التدريب عليها بانتظام،
وفقًا لطيارين مشاركين في هذا العرض، إذ يرى البعض أن نقل التدريبات القتالية
الروتينية إلى ساحة العرض يمثل وسيلة لإظهار مستوى الجاهزية أمام الجمهور.
وبعد لحظات، ظهرت طائرة التزود بالوقود "واي
واي-20 أي" تتبعها مقاتلتان من طراز "جيه-16" في تشكيل يحاكي عملية
تزوّد بالوقود.
نشرت الطائرة أنظمة التزود بخراطيم الوقود بطريقة
أوضحت آلية إمداد المقاتلات بالوقود جوًا، في عرض لقدرة أساسية تعمل القوات الجوية
الصينية على تطويرها في السنوات الأخيرة. وأظهر التشكيل كيف يمكن لمقاتلات الصين
الحديثة إطالة مدى عملياتها من خلال التزود بالوقود جوًا، وهي قدرة ضرورية
للعمليات بعيدة المدى عبر مساحات آسيا الشاسعة.
كما جذبت المقاتلات عالية الأداء انتباه الجمهور
بمناورات فردية دقيقة، فقد انطلقت المقاتلة "جيه-16" -وهي طائرة متعددة
المهام ثنائية المحرك- في صعود عمودي، قبل أن تنفذ حلقات ضيقة تحاكي معركة جوية،
في استعراض لمهارات القتال العمودي وقدراتها على المناورة.
استعراض للقوة
يعكس حجم معرض تشانغتشون الجوي وانفتاحه ملامح
التحول في القدرات الجوية الصينية وثقتها المتزايدة في استعراض تلك الإمكانيات.
فالحدث الذي استضافته "مدينة المعارض الدولية للطيران" خارج مدينة تشانغ
تشون، يقام في نسخته الرابعة، وقد تضاعف حجمه مقارنة بالنسخ السابقة.
ومنذ أن بدأ سلاح الجو الصيني تنظيم هذه الأيام
المفتوحة عام 2011، أصبحت منصة لعرض تطوره العسكري ومسار تحديثه الاستراتيجي.
ورغم أن معرض تشانغتشون الجوي لعام 2025 وُجّه
بالأساس إلى الجمهور المحلي، فإنه جذب أيضًا اهتمامًا خارجيًا. فقد تابع خبراء
عسكريون ومحللو دفاع حول العالم العروض والإعلانات بدقة، معتبرين ما كشفت عنه
الصين مؤشرًا على قدراتها واتجاهاتها المستقبلية.
وفي المقابل، ذكر التقرير السنوي لوزارة الدفاع
الأميركية المقدم إلى الكونغرس عام 2020 بعنوان "التطورات المتعلقة بجمهورية
الصين الشعبية"، أن الجيش الصيني وصل إلى مستوى التكافؤ مع جيش الولايات
المتحدة، بل وتجاوزها في مجالات مثل بناء السفن، والصواريخ الباليستية والصواريخ
المجنحة التقليدية البرية، وأنظمة الدفاع الجوي المتكاملة.
قوة جوية لم تُختبر؟
منذ عقود، وبالتحديد منذ حرب مع فيتنام عام 1979،
لم تختبر الصين قدراتها الجوية في نزاع مباشر، مفضّلة تجنّب الانخراط في حروب خارج
حدودها. في المقابل، خاضت الولايات المتحدة وحلفاؤها سلسلة عمليات عسكرية واسعة،
من الخليج إلى البلقان وصولا إلى أفغانستان، حيث كان سلاح الجو في صميم المعركة
وأداة حسم رئيسية.
ورغم امتلاك الصين اليوم أحد أضخم أساطيل الطيران
وأكثرها تطورًا، والذي يضم نحو 4000 طائرة، تشكّل المقاتلات أكثر من نصفها، ما
يضعها في المرتبة الثالثة عالميًا من حيث الحجم بعد الولايات المتحدة وروسيا، فإن
هذه القوة لم تُختبر بعدُ في ساحات القتال.
هذا الأمر يثير تساؤلات حول مستوى جاهزيتها
الفعلية، فالمناورات والتدريبات -مهما بلغت دقتها- تظل محكومة بسيناريوهات معدة
مسبقًا، تختلف عن واقع المعركة وما يرافقه من مفاجآت وظروف غير متوقعة.
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن قوة الصين الجوية
تقف عند مفترق طرق بين الطموح والاختبار. فهي من ناحية، تملك قاعدة صناعية متنامية
وأسطولًا ضخمًا يتعاظم كمًا ونوعًا، وتستعرض قدراتها عبر مناورات ومعارض تسعى
لإبراز مكانتها كقوة عظمى صاعدة.
لكنها من ناحية أخرى، ما تزال أسيرة معضلة غياب
التجربة القتالية المباشرة، الأمر الذي يترك فجوة بين صورتها الدعائية وواقع
أدائها المحتمل عند اندلاع نزاع واسع.