العدد 1424 / 12-8-2020
مصطفى جاويش
"أتمنى
دخول كلية الطب وأصبح طبيبا للغلابة"؛ عبارة تكررت كثيرا فى وسائل الاعلام
على لسان أوائل الشهادة الثانوية العامة، والتي تعتبر من أهم الشهادات التعليمية
في المجتمع المصري منذ سنوات طويلة والمؤهلة لاستكمال التعليم الجامعي، وبذلك
تعتبر نقطة التحول الكبرى في حياة الأبناء ومستقبلهم العلمي والعملي داخل مصر
وخارجها.
وكان
الشعب المصري قد انتفض عن بكرة أبيه يوم الثلاثاء 28 تموز 2020، باكيا وفاة الطبيب محمد مشالي رحمه الله، والمعروف باسم
"طبيب الغلابة"، والذي كان رمزا للعطاء الطبي لخدمة المرضى على مدى عدة
عقود بأجر رمزي أو بالمجان. وكانت المشاركة الإعلامية على أعلى مستوى تشهده مصر من
الاهتمام والتركيز على ذكر مآثر الفقيد وعرض مسيرة حياته وتضحياته في مجال علاج
الفقراء ليصدق فيه وصف طبيب الغلابة، خاصة أن 34% من المصريين تحت خط الفقر.
كان
رحمه الله قد تخرج من كلية طب قصر العيني بالقاهرة في منتصف الستينيات من القرن
الماضي، وتنقل بين أكثر من وحدة صحية ومستشفى، ومارس الطب من خلال عيادته الخاصة
المتواضعة بمدينة طنطا بوسط الدلتا، لعلاج المرضى كممارس عام في مجالات الأمراض
الباطنية والأطفال والحميات، واشتهر بين الناس بالبساطة وحب المرضى وعدم المغالاة
في طلب الأموال نظير الخدمات الطبية المقدمة لهم، وانتشرت صورته كأيقونة ونموذج
طبي شعبي.
جاءت
وفاة هذا الطبيب الرمز لتفتح مجال عرض واقع المنظومة الصحية في مصر، حيث يعاني
الغلابة من المرضى ومن الأطباء سواء بسواء.
على
الدولة أن تلبي رغبات أوائل الشهادة الثانوية العامة بأن يصبح الواحد منهم طبيبا
مؤهلا علميا وفنيا، وتوفر لهم منظومة عمل في المؤسسات الحكومية تضمن لهم دخلا
جيدا، وبيئة عمل صالحة، توفر لهم تقديم الخدمة الصحية المجانية لجميع المواطنين
بجودة وكفاءة وعدالة مجتمعية .
كانت موجة الحب والوفاء لطبيب الغلابة
كاشفة عن مدى احتياج المواطن المصري لتوفير الخدمة الصحية المجانية أو منخفضة
التكاليف. وفي حين تنص المادة رقم 18 من دستور 2014 في مصر على حق المواطن في خدمة
صحية مجانية متكاملة وبجودة عالية من خلال نظام تأمين صحي تكافلي شامل، إلا أن هذا
لم يتحقق حتى الآن رغم مرور ست سنوات، وما زال المصريون يعانون من نظام تأمين صحي
قديم قاصر يغطى 56% فقط من الشعب، ويستفيد منه فعليا قرابة 25% فقط وبمستوى متدن
من الجودة والكفاءة، في حين أن منظومة التأمين الصحي الجديد والتي صدر لها قانون
خاص في كانون الثاني 2018؛ ما زالت في مرحلتها الأولى وتم تغطية قرابة التسعمائة
ألف مواطن فقط هم سكان محافظة بورسعيد الساحلية وبنسبة حوالي 1% من إجمالي 100
مليون نسمة هم عدد سكان مصر.
ومن
ناحية أخرى فقد تم حرمان شعب مصر من خدمات صحية جيدة ورخيصة، وشبه مجانية، كانت
تقدم من خلال أكثر من 1055 جمعية خيرية طبية إسلامية تمت مصادرتها في شهر كانون
الأول 2013 بدعوى مكافحة الإرهاب، وبعدها حدث انسداد مجتمعي أغلق الباب أمام تكوين
أية جمعيات خيرية طبية جديدة خاصة بعد صدور قانون الجمعيات الأهلية في أيار 2017
والذي وضع قيودا تعجيزية كحائط سد يعيق العمل الخيري وما يشمله من تقديم خدمات
صحية بجودة عالية للفقراء أو "الغلابة" بالمفهوم الفولكلوري المصري.
وقد
عانى "الغلابة من الأطباء" من سوء أحوال البيئة الصحية داخل المؤسسات
الطبية من نقص الإمكانيات، وانهيار البنية التحتية، والتعرض شبه اليومي للعنف
المجتمعي دون حماية أمنية، ناهيك عن تدني الأجور، حيث أن دخل الطبيب لا يتجاوز
مبلغ المائة وأربعين دولارا شهريا، وكانت النتيجة هي قيام 60% من الأطباء بالهروب
من مصر إلى خارجها بحثا عن فرص لتحسين دخلهم المالي، والبحث عن مجالات أوسع
للتأهيل العلمي، وأماكن تقدم لهم بيئة صالحة للعمل الطبي بجودة عالية تجعل الطبيب
قادرا على تلبية بنود "قسم الطبيب" الذي يلزمه نفسيا وأخلاقيا وإنسانيا
وقانونيا على خدمة المريض والحفاظ على
حياته. فى حين ظل باقي الأطباء داخل مصر يعانون من
الإهمال في الرعاية الصحية والتنمر الحكومي في المعاملة الإدارية والتعسف الوظيفي،
وظهر هذا واضحا مع بدء انتشار وباء كورونا في مصر، حيث تعالت صيحات الاستغاثة من
الأطباء وجميع أعضاء الأطقم الطبية، تشكو نقص الواقيات والمستلزمات الضرورية لمنع
العدوى، نعم لقد مات طبيب الغلابة، وبقي الغلابة دون طبيب في بلد لا يتجاوز
الإنفاق الصحي فيه نسبة الـ1.2% من الناتج المحلي مقارنة بالنسبة العالمية والتي
قدرتها الصحة العالمية بما لا يقل عن 9.1%، وكان من نتيجة ذلك أن جاء تقرير مؤشر
الرفاة الصحي ليعلن أن مصر والعراق ضمن أسوأ عشرين دولة عالميا في مستوى الرعاية
الصحية.
ويبقى
على الدولة أن تلبي رغبات أوائل الشهادة الثانوية العامة بأن يصبح الواحد منهم طبيبا
مؤهلا علميا وفنيا، وتوفر لهم منظومة عمل في المؤسسات الحكومية تضمن لهم دخلا
جيدا، وبيئة عمل صالحة، توفر لهم تقديم الخدمة الصحية المجانية لجميع المواطنين
بجودة وكفاءة وعدالة مجتمعية.