العدد 1432 / 14-10-2020
طارق
أوشن
اعتلى
الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون منصة بإحدى القاعات المغلقة بالضاحية الباريسية
ليخطب في وزرائه معلنا عن "رؤيته" لمحاربة مظاهر الانفصال والانعزال في
المجتمع الفرنسي. كان منتظرا أن يشمل خطاب الرئيس مختلف مظاهر الانعزالية، لكنه
اختار، عن سابق قصد، أن يركز كلامه على "الانعزال الإسلامي".
ماكرون
يسعى لإعادة انتخابه والحديث عن الإسلام ورقة رابحة لاستمالة الناخبين من وسط
اليمين، بعد ان انفض من حوله جزء كبير من اليسار، نتيجة فشله الذريع في الاستجابة
لمطالب حركة السترات الصفراء التي قضت على ما يمكن أن يعود به إلى الناخبين من
رصيد "اجتماعي". لم يتبق للرجل غير السباحة في مستنقع
"الهوية" في مواجهة "الإسلام السياسي" الذي صار، بين عشية
وضحاها، لدى الطبقة السياسية وطيف واسع من "النخبة" الثقافية
والإعلامية، دينا جديدا يعتنقه المسلمون بفرنسا في تهديد مباشر لقيم الجمهورية
ولمبادئ العلمانية التي ارتكزت عليها ولا تزال.
لأجل
ذلك فلا مجال للمواجهة غير إقرار "محاكم تفتيش مكرونية" للبحث في نوايا
الأشخاص ونياتهم بدل الإقرار بفشل الدولة في تركيزها على صون "الهوية"
المزعومة واستهداف أبناء الجمهورية في دياناتهم واعتقاداتهم، كما يضمنها قانون
"اللائكية" منذ العام 1905، دون غيرها من الإجراءات. مائة وخمسة عشر سنة
مرت إذن على إقرار "لاهوت" الجمهورية الذي صار مقدسا على حساب المقدسات.
ماكرون
اعتبر أن "الإسلام يعيش أزمة في كل مناطق العالم". والأكيد أن إزالة
كلمة الأزمة (التي هي في الواقع سمة فرنسية خالصة) من جملته تفضح المعنى المقصود
من كل هذا الهجوم، الذي لا يهدأ، على الإسلام الذي صار مقرونا في الأدبيات
الفرنسية ب"الإرهاب الإسلامي" منذ أن تجرأ فرانسوا هولاند، الأب الروحي
لماكرون، على النطق بالمصطلح وهو يطالب بنزع الجنسية الفرنسية عن مسلميها المتبنين
للفكر "الجهادي" غداة أحداث باريس الإرهابية. يومها منعت فرنسا
"الحريات" توزيع فيلم سينمائي بالقاعات بعنوان (صنع في فرنسا) باعتباره
مرافعة، غير مقصودة، لتبرئة الآخر الأجنبي من "الأزمة" الفرنسية واعتبار
"الإرهاب" صناعة فرنسية محلية تسبب فيها فشل السياسات الحكومية
المتعاقبة في تدبير اختلاف أعراقها ودياناتها و"عزل" ملايين من مواطنيها
في غيتوهات بعيدة عن المركز أو تنميطه أبنائها في قوالب جاهزة تحول بينهم وبين
الترقي الاجتماعي.
"الإرهاب
الإسلامي" هو ذات المصطلح الذي استخدمه وزير الداخلية الجديد، جيرالد
دارمانان، الذي يحمل في جيناته عرقا مسلما لابد من اقتلاعه والتنكر له لإثبات
الولاء للجمهورية وقيمها. جريدة لوفيغارو، المحسوبة على اليمين المعتدل، اعتبرت،
أياما قبل خطاب ماكرون، أن الحرب على الإرهاب تسير جنبا إلى جنب مع الحرب ضد
الإسلام السياسي، الذي وصفته بأنه "أيديولوجية ظلامية" تنتشر في كل ركن
من أركان المجتمع الفرنسي.
وقبل ذلك أعادت صحيفة شارلي ايبدو نشر
الرسومات المسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهي التي حولت قبل سنوات مقرها
لمسرح جريمة، كادت أن تتكرر مرة ثانية في خطوة أثارت الهلع في نفوس الطبقة
السياسية الفرنسية وأجهزتها. لقد كانت محاولة الاعتداء الأخيرة على مقربة من مقر
الصحيفة السابق جرس إنذار يؤكد أن الاستفزاز لا يولد إلا العنف ولا يزرع غير
الكراهية التي لن تعدم "جنودا" يضربون باسمها. عمل الصحيفة في مقر سري
وتحت حماية الأجهزة الأمنية لا يجعلها في مأمن. فالعمليات الرمزية لها وقع أقوى من
مذابح تحصد مدنيين. وحرب فرنسا على الإسلام استهداف للرموز ومحاولة للنيل منها.
يقترح
الشيخ ايمانويل ماكرون، الذي اختار في رمزية لا تخطئها العين يوم جمعة لإعلان خطته
لـ "تحديث" الإسلام وإخراجه من "أزمته" العالمية، على طريقة
صديقه "طبيب الفلاسفة" الذي يبدو أنه صار فيروسا سريع الانتشار أو مجرد
"أداة" تردد صدى القوى العالمية التي تبنته حاكما دمويا منقلبا على حكم
مدني منتخب على مذبح جريمة ضد الإنسانية في رابعة، قيل بالمناسبة أنها استهدفت
"الإرهاب الإسلامي"، مواجهة التطرف الديني عبر "التصدي للانعزالية
الإسلامية الساعية إلى إقامة نظام مواز وإنكار الجمهورية"، عبر قانون سيتم
عرضه على البرلمان بداية كانون الأول المقبل، إيذانا بتحويل كل ما كان يعتمل في
الساحة السياسية والفكرية والإعلامية الفرنسية من ميدان النقاش العام إلى مستوى
"سياسة رسمية للدولة" تحول " أزمة" فرنسية محلية إلى مواجهة
مباشرة مع مئات الملايين من المسلمين عبر بقاع العالم كلها.
فرنسا
التي لا تزال تحاول الإيحاء بكونها قوة دولية قادرة على الردع والمواجهة، تفتح على
نفسها معارك وجبهات هي في غنى عنها ليس في مواجهة حكومات وأنظمة، لم تحرك ساكنا
لاستنكار الهجوم على ديانات بلدانها الرسمية غير رجب طيب أردوغان، بل في مواجهة
أفراد وجماعات يمكنها الضرب بتنسيق عمليات أو بانفراد في التخطيط والفعل.
فرنسا
التي لم تستطع الاقتراب من قانون لا يتعدى عمر إقراره المائة سنة إلا بقليل، يرى
رئيسها في نفسه ومؤسساته القدرة على التأثير في الإسلام، الديانة الأكثر حيوية
باعتراف منظري اليمين أو بعض من الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين الأكثر إنتاجا
ومصداقية لدى الرأي العام. وربما يعتقد ماكرون وغيره أن تبني خطاب حملة نابليون
بونابرت على المشرق الإسلامي قرونا قبل اليوم كفيل بالتغطية على كل ما يعيشه
المسلمون من تضييق على أرض بلاد "الحريات".
مريم
بوجيتو، طالبة فرنسية من والدين مسيحيين اعتنقا الإسلام، وهي أيضا قيادية في
الاتحاد الوطني لطلبة فرنسا بجامعة السوربون، ظهرت قبل سنتين في برنامج وثائقي على
قناة ام 6 فأثار ذلك حفيظة "حماة" العلمانية الفرنسية بل وزير الداخلية
وقتها جيرار كولومب، الذي اعتبر ظهورها على التلفزيون الفرنسي "صدمة".
ماكرون
ليس نابليون، وفرنسا الامبراطور ليست فرنسا الرئيس "الصدفة"، والمماليك
ليسوا أتراك هذا الزمان. وعندما يفتح ماكرون المواجهة مع تركيا في البحر المتوسط
اعتمادا على أكاذيب، أو بتسليح حفتر واليونان وتحريض الأرمن، يكون الجواب من نظيره
التركي أنه "طامع غير مؤهل"
بعدها بسنتين، تعود نفس الطالبة لتتصدر
الأخبار بعد أن غادر برلمانيون اجتماعا حضرته بالبرلمان الفرنسي لمناقشة أوضاع
الطلبة بالبلاد. جريرة مريم أنها محجبة ليس إلا. مريم، التي سخرت شارلي ايبدو مرة
أخرى من حجابها وشكلها، لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة فهذه إيمان بونو، الطالبة
المسلمة التي تقدم وصفات طبخ على موقع إنستغرام، تجد نفسها عرضة لسيل من الشتائم
والتهديدات بالقتل بسبب مقطع فيديو على قناة بي إف إم الإخبارية تحدثت فيه عن
شغفها بالطبخ، والسبب حجابها. فرنسا الحريات لا تتحمل غطاء للرأس فهو رمز
"ديني" دخيل. لأجل ذلك منعته في المدارس في العام 2004 قبل أن تصبح
الجامعات الهدف القادم وقبله منع النقاب بالأماكن العامة ومنعت النسوة من السباحة
بالبوركيني ومن الجري بلباس رياضي بقبعة تغطي الرأس. الهدف المعلن حظره في الشارع
الفرنسي كما كانت رغبة رئيس الوزراء الأسبق مانويل فالس، الذي اعتبره
"استعبادا للمرأة"، قبل أن تلفظه فرنسا ومعه حزبه الاشتراكي ليجد السلوى
في منصب عضو ببلدية برشلونة باعتبار أصله الإسباني.
يا
ليث ماكرون يستمع لكلمات مارين فهما المرشحان المحتملان للدور الثاني من
الانتخابات الرئاسية المقبلة. موقف الاثنان تعبير عن "ملهاة" السياسة
الفرنسية وانحدارها. النازية لم تمت مع هتلر بل هي فكرة لا تزال تعشعش في القلوب
والعقول.
في
العودة إلى بونابرت:
يقول
نابليون موجها خطابه للمصريين: "لطالما استبد هذا الحشد من العبيد، الذي تم
شراؤه في القوقاز وجورجيا، بأجمل جزء من العالم. لكن الله، الذي يعتمد عليه
الجميع، قد قرر أن إمبراطوريتهم ستنتهي. يا شعب مصر، لقد أخبروكم بأنني جئت لتدمير
دينكم، لكن لا تصدقوهم. أخبروهم أنني جئت لاستعادة حقوقكم ومعاقبة المغتصبين،
وأنني أحترم الله ونبيه والقرآن أكثر من المماليك. قولوا لهم أن جميع الناس
متساوون أمام الله..... ... حقا سعداء هم أولئك الذين سيكونون معنا! ستزدهر ثروتهم
ورتبهم. سعداء هم أولئك الذين سيكونون محايدين! سوف يتعرفون علينا بمرور الوقت،
وينضمون إلى صفوفنا. لكن غير سعداء أبدا، أولئك الذين سيسلحون أنفسهم من أجل
المماليك والذين سيحاربوننا! لا رجاء لهم، وسيهلكون.. ".
ماكرون
ليس نابليون، وفرنسا الامبراطور ليست فرنسا الرئيس "الصدفة"، والمماليك
ليسوا أتراك هذا الزمان. وعندما يفتح ماكرون المواجهة مع تركيا في البحر المتوسط
اعتمادا على أكاذيب، أو بتسليح حفتر واليونان وتحريض الأرمن، يكون الجواب من نظيره
التركي أنه "طامع غير مؤهل" قبل أن يضيف "نحن كبار عليكم"
ويختم بأن حديثه عن تحديث الإسلام "وقاحة وقلة أدب".
والخلاصة
أن كل ما حدث في السابق " لن يحدث مرة أخرى إطلاقا وأبدا"، والإسلام
سيعيش في كل بقاع العالم كما يريده معتنقوه، ولن يحمله لا بعض أبنائه
"الضالون" تشددا وانبطاحا، أو ساسة غربيون متدثرون بعباءة الشيوخ
المصلحين، أوزار ما اقترفته أيديهم وأسلافهم من جرائم ضد الإنسانية ومن فظاعات.