العدد 1631 /25-9-2024
وليد الهودلي
انقسم الناس
(وعلى عادتنا أن ننقسم) على الجزيرة في ظل هجمة شرسة من اليمين المتطرّف
الإسرائيلي عليها، والتي تمثّلت بإجراءات رسمية طالت إغلاق مكاتبها في الداخل ثم
تبع ذلك في مقرّها الرئيس في رام الله. ومن المعلوم كم هو حجم التجاوز القانوني
والإسفاف الإعلامي لسلطات الاحتلال في هذا الاعتداء الصارخ على الإعلام بشكل عام
والجزيرة بشكل خاص، هذا الاعتداء بلغ القتل وإسالة الدماء لقرابة 140 صحافيا في
هذا العدوان، كان للجزيرة من هذه الدماء نصيب الأسد.
وهنا لا يمكن
أن نفترض إجماع الناس سلبا أو إيجابا على وسيلة إعلامية مهما بلغت، ولكن اعتماد
الأبيض والأسود، وهذا الفرز الحاد بين منكر ومعترض ومخوّن بالكليّة أو العكس
المؤيّد مطلقا، أزاح النقاش عن موضوعيته التي يمكن أن تفتح مجالا رحبا للنظر فيما
أبدعت وتألقت به الجزيرة وفيما أخفقت أو فشلت، أو إن جاز التعبير فيما أساءت. وهنا
يمكن النظر إلى المشهد متكاملا واستيعاب وجهات النظر، بعيدا عن تلك العدمية التي
تنفي جملة وتفصيلا أو تقبل دون أية تحفّظات.
بداية لا بدّ
من الاعتراف بأنّ الجزيرة قد أحدثت نقلة نوعية في الإعلام العربي من حيث المساحة
الحرّة المطروحة وحالة التنوّع والتعدد الذي تظهره شاشتها، إذ كانت الشاشة العربية
على الغالب تحمل صورة من يقف وراءها دون أية مراعاة لأن هناك في المجتمع من يختلف
معه، يعني ذلك حجب صورة وصوت المعارضة بشكل كامل أو شبه كامل، حيث الهامش الذي
يسمح به الظهور بمظهر الانفتاح نوعا ما، جاءت الجزيرة فوسّعت هذا الانفتاح
والتعدّد بشكل كبير ولافت ميّزها عن غيرها كثيرا.
الجزيرة شقّت
طريقا مغايرا أتاح للرأي الآخر فرصة كان ممنوعا منها منذ نشأة الإعلام العربي إلى
أن جاءت الجزيرة، ولا أقول ذلك على إطلاقه دون أيّ استثناء وإنما بصورة نسبيّة،
أصبحنا نرى على الجزيرة استضافة شخصيات متنوّعة وكثيرة لم نكن نراها من قبل، وكذلك
تنوّعت برامجها وتوسّعت لتطال كثيرا من المواضيع كمّا ونوعا لم تكن يتطرّق لها أحد
من قبل إلّا بطريقة الرأي الواحد على قاعدة "إن أريكم إلا ما أرى" أو
"ما في أعور إلا أعور الحكومة" .
وصل الناس ما
قبل الجزيرة إلى حالة من السأم والملل بل والقرف في رسم المشهد السياسي؛ من شاشات
تصرّ على ذات الوجوه وذات الشخصيّات الكاريكاتيرية المفصّلة على المقاس الرسمي
العربي، تروّج بصفاقة وبلادة وتتماهى بما يريده سيّدها ووليّ نعمتها ومن له الفضل
في إبرازها على شاشاته، جاءت الجزيرة وفتحت نمطا آخر تتيح لشخصيات حرّة ومتحرّرة
من الرواية الرسميّة، فارتقت بذلك الجزيرة وارتفعت مكانتها وصارت مهوى أفئدة الناس
المتعطّشة للحريّة والانعتاق من ذاك المشهد المملّ البائس المقيت.
أعتقد أن ما
أحدثته الجزيرة في هذا المجال يتفق عليه كثيرون، ولكن هناك ما يعترض عليه كثيرون
أيضا، ولا أريد أن أستخدم كلمة إجماع لأن المسألة لا تعتمد مؤشرات قياس علمية
دقيقة. مما لا شكّ فيه أن إصرار الجزيرة على إتاحة مساحة واسعة لزعامة الكيان
والناطقين الرسميين على شاشتها فيه علامة استفهام ومشكلة كبيرة، وهنا لا نقول عدم
نقل ما يجري هناك وما يصرّح به قادتهم، وإنما كيفية النقل وأن لا تكون الجزيرة
بوقا حرفيا لهم ولدعايتهم وحربهم النفسية، يكفي نقل جوهر تصريحاتهم دون أن ننقلها
بكل ما تحمل من ضرر وخبل وأحيانا إمعان في الكذب والتضليل.
وهناك صنف ثالث
هو من يحمل على الجزيرة ويُحمّلها مسؤولية القصف الإسرائيلي والدمار لأن بعض
محلّليها العسكريين أظهروا أن الحرب بين جيشين وأن المقاومة في حالة حرب، وبالتالي
يحق للمحتل أن يضرب بكلّ قوّته في المقابل، مثلما حمّل شمعون بيرس في إحدى
مقابلاته الجزيرة مسؤولية قتل الأطفال لأنها تنقل صورهم عبر شاشاتها، وأعفى بذلك
جنوده الذين يطلقون الرصاص. هذا غير معقول، وقد ردّ أحد الموضوعيين بأن الجزيرة لم
تكن موجودة عندما احتُلت فلسطين عام 48 وأن تحميل الجزيرة مسؤولية جرائم الاحتلال
فيه إسفاف كبير.
بقي أن أقول
لكلٍّ الحق في إبداء تحفّظاته واختلافه مع الجزيرة، ولكن دون إنكار فضلها وما
أحدثته في العقل الإعلامي العربي من فضل كبير.