ياسر الزعاترة
لو أردنا أن نحسب عدد المسلمين الذين تورّطوا في أعمال عنف في الغرب، فكم يمكن أن يكون العدد؟ سجلات القضايا والمحاكم لا تشير إلا إلى أعداد محدودة، لم تتجاوز طوال ثلاثة عقود بضع مئات؛ هذا من بين عشرات الملايين في الغرب، وأكثر من مليار ونصف المليار في العالم أجمع.
يحدث أن يتورّط مسيحيون في أعمال عنف، وبخلفية دينية، كما في أمريكا، لكن أحداً لا يتهم المسيحيّة. ويحدث أن يتورط يهود في حرق بشر أحياءً، وما دون ذلك، ولا أحد يتهم اليهودية، لكن الأمر لا يبدو كذلك في الحالة الإسلامية.
أعلن البغدادي الخلافة، فكم عدد الذين بايعوه، وكم نسبة من يؤيدونه؟ هناك من يؤيدون، وهناك من يتعاطفون، وهناك من يتفهمون، لكن الغالبية الساحقة لا تؤيد قتل المدنيين غير المحاربين في الأماكن العامة.
لا يعني ذلك أن المسألة فكرية وحسب، فما يستخدمه أنصار تنظيم داعش من نصوص كان ولا يزال موجوداً، وهناك في التوراة والإنجيل ما هو أكثر وضوحاً في الحض على قتال المخالفين، بل إن أدياناً ليس فيها شيء من ذلك، كما البوذية مثلاً؛ لا يلبث أفرادها أن يتورّطوا في العنف والقتل، كما يفعل البوذيون في بورما مثلاً، وبتحريض من رهبان أيضاً.
أن يفجِّر أحدهم نفسه في مطار فيه أناس من كل البشر (القتلى والمصابون في بروكسل من 40 جنسية)، فلا يمكن أن يكون ذلك مبرَّراً بأي حال، والقول إن الشعوب الأوروبية مسؤولة عن سلوك قيادتها غير صحيح، فحين خرج طوني بلير لمشاركة جورج بوش في حرب العراق، كانت بريطانيا تشهد أكبر مظاهرات في تاريخها كله.
قتل المدنيين في الأماكن العامة لا يمكن أن يخدم قضية عادلة، وأضراره واضحة على الإسلام والمسلمين والجاليات، بل أيضاً على منفذيه، وليس صحيحاً أن الحرب ماضية، لأن طبيعة السياسة هي التي تؤدي إلى زيادة الأعداء أو تقليلهم.
المصيبة أن التنفيذ لا يتم بناء على بوصلة معينة، بل بحسب الإمكانات، وإلا فما هو دور بلجيكا مثلاً في التحالف الدولي، وهل سمع أحد عن طائرات بلجيكية تقصف هنا أو هناك؟! أما منطق النكاية، فهو يصلح مع تنظيم ثوري، وليس مع قوم يقولون إنهم يبنون دولة.
من يتورّطون اليوم في هذه الأعمال هم تبع لفصيل بعينه، وهذا الفصيل يعتقد أنه أنشأ دولة، وأنها تمثل الإسلام، وأن هناك من يعتدي عليها، لكن غالبية المسلمين لا تقرّ بذلك، دون أن ينكر أحد أن لهم بعض التأييد، وهذا التأييد يستحق النقاش بكل تأكيد. أما المشاركة في التحالف، فهنا دول عربية وإسلامية تشارك، فهل يصح القول إن مواطنيها مستباحو الدم بالجملة؟!
هذا التأييد (فضلاً عن مسار التنظيم نفسه) هو الذي يمكن أن نضعه في الإطار السياسي، وهو نتاج موجة بدأت رداً على غزو لم يملك أيّ مسوّغ أخلاقي أو قانوني، أعني غزو العراق (حظيت في حينه بتأييد واسع)، ثم ما لبثت تلك الموجة أن تراجعت بسبب ميل العرب السنة في العراق إلى العملية السياسية، وبسبب أخطاء من نفس التنظيم، وتأكد التراجع بانطلاق ربيع العرب ودعوة أسامة بن لادن مريديه إلى الانسجام معه، لكن الموجة ما لبثت أن شهدت اندفاعتها الأكبر بسبب طائفية المالكي وفضّه للاعتصامات السلمية بالقوة، ثم بدموية بشار ضد شعبه، ثم اكتملت بجنون الحوثي، ثم اتسع الغضب حين بدأت الهجمة التالية على التنظيم عبر التحالف، التي استهدفته بشراسة، مقابل تعاونها مع طائفيين، بل مجرمين أيضاً كما هو حال كثيرين في ميليشيات ما يسمى الحشد الشعبي في العراق، وكذلك منحت الحماية العملية لمجرمي النظام السوري.
هذه هي الأجواء التي صنعت الموجة الجديدة من العنف، ومن دون حلول عملية في هذه المربعات (تحضر فلسطين أيضاً في هذه القضية)، فستتواصل هذه المأساة التي تجد تجلياً بسيطاً جداً في الخارج، بينما نتج وينتج منها ملايين القتلى والجرحى والمشردين في الدول إياها، لكن هؤلاء لا بواكي لهم، وهم أرخص بالمنطق الغربي من بضع عشرات أو حتى مئات يسقطون في العواصم الغربية.
هذا اللون من العنف، في زمن العنف الرخيص لا يُعالج أمنياً، بل يُعالج بإنهاء أسبابه، لكن الغرب لا يريد ذلك، ويصرّ على مسار المعالجة الأمنية، وهذه وحدها لا تكفي. قلنا ذلك قبل هجمات باريس وبعدها، ونقوله الآن بعد هجمات بروكسل، دون أن نتردد في الإدانة.