العدد 1640 /27-11-2024

يمان دابقي

حدثت منتصف شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي تطوّرات خطيرة في مسار الحرب الروسية الأوكرانية، فبعد مضي ألف يوم على غزو فلاديمير بوتين أوكرانيا، أقدمت الأخيرة على استهداف العمق الروسي في مدينة بريانسك الروسية بصواريخ أتاكمز أميركية الصنع، وبأخرى، بريطانية فرنسية إيطالية، من نوع ستورم شادو. استطاعت الدفاعات الروسية إسقاط بعضها، فيما أدّت البقية إلى إحداث دمار كبير في منشآت عسكرية وطاقوية، ما دفع بوتين إلى الردّ الفوري عبر إطلاق صاروخ أورينشنيك متوسّط المدى (فرط صوتي) محمّلاً بستّة رؤوس حربية. سقط الصاروخ في مدينة دنيبرو جنوب شرق أوكرانيا، وقد عّد هذا التصعيد الأخطر منذ بدء العمليات الروسية ضدّ أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022، بسبب أن الصاروخ الذي أطلقته روسيا هو من حزمة ترسانتها النووية، وما اكتفاء بوتين تحميله رؤوساً حربية إلّا لتوجيه رسائل مترامية الأطراف إلى كلّ من دول الاتحاد الأوروبي، ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو) الداعمة لأوكرانيا.

جاء التصعيد الماثل في الساحة الأوكرانية محاكاةً لأزمة الصواريخ الكوبية 1962. حينها لم تنته الأزمة إلّا بفعل توصّل الرئيس الأميركي جون كينيدي إلى اتفاق مع السوفييت لإزالة الصواريخ الكوبية، شريطة تعهّد الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا، وأن تقوم بالتخلّص سرّاً من الصواريخ الباليستية من نوعي ثور وجوبيتر. اليوم ومع عودة روسيا إلى التلويح باستخدام السلاح النووي في حربها ضدّ أوكرانيا وحلفائها في الناتو، باتت حدود المواجهة بين روسيا والغرب قصيرةً، وأبعدَ بكثيرٍ من مُجرَّد الصراع على الجغرافيا الأوكرانية، ومحاولة كييف الخروج بموقع المنتصر بالتعاون مع الغرب. وقبل الحديث عن تداعيات المنعطفات الخطرة بين روسيا والغرب وأوكرانيا، التي جاءت في جوّ إقليمي مضطرب، وأزمات دولية، وحروب مشتعلة في الشرق الأوسط، فمن المهمّ وضع هذا التصعيد في سياقه الصحيح.

وفي خطابه أمام الأمّة الروسية (21 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي)، وجّه بوتين رسائلَ شديدة اللهجة إلى الولايات المتحدة وبريطانيا، وحمّلهما مسؤولية التصعيد الأخير في الحرب الأوكرانية التي اعتبر أنّها أخذت طابعاً عالمياً، بعد سماح الرئيس الأميركي المنتهية ولايته جو بايدن لأوكرانيا أخيراً باستخدام صواريخ بعيدة المدى لاستهداف العمق الروسي، في محاولةٍ منه تعقيد الموقف، أمام الرئيس الفائز دونالد ترامب الذي توعّد خلال حملته الانتخابية بإنهاء الحرب الأوكرانية خلال 24 ساعة. واعتبر خطاب بوتين أنّ الولايات المتحدة تدفع العالم نحو صراع عالمي، بعد تزويدها كييف بصواريخ لا تعمل إلّا من خبراء غربيين، وهو ما قادها إلى تنفيذ هجوم على مدينة بريانسك، وقد برّر استخدامه صاروخاً بعيد المدى للمرّة الأولى منذ حربه على أوكرانيا، ردّاً للاعتبار، مشدّداً على المعاملة بالمثل، والردّ الحازم في حال ازدادت الأعمال العدائية ضدّ روسيا، وهدّدت نظامها السياسي والاقتصادي.

لم تكن رسائل بوتين إلى حلفاء أوكرانيا أحاديةَ الجانب، تبعها تصريح خطير للرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف في منصّة إكس، فاعتبر أنّ إصرار الغرب على تزويد أوكرانيا بأسلحة غربية، سيقود إلى حرب عالمية ثالثة، أمّا وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، فقال إنّ استخدام كييف أسلحةً غربيةً، سيكون بمثابة مرحلة نوعية جديدة في الحرب الغربية ضدّ روسيا. تصعيد النبرة الروسية ضدّ الناتو جاء بعد توقيع بوتين (في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري) مرسوماً يقضي بإجراء تعديل في العقيدة النووية الروسية، وجاء في النصّ المُعدَّل، أن روسيا ستعتبر أي هجوم من جانب دولة غير نووية مدعومة بقوة نووية بمثابة هجوم مشترك، وعليه يحقّ لموسكو توجيه ضربات إلى المنشآت العسكرية في البلدان التي تزوّد كييف بأسلحة بعيدة المدى. من الأهمية التذكير أن تغيير العقيدة النووية الروسية كان معمولاً عليه منذ أشهر، ففي يونيو/ حزيران الماضي، ألمح بوتين إلى ذلك، وما اتخاذه القرار في الشهر الحالي إلّا بمثابة ردٍّ أوّلي على قرار بايدن السماح لأوكرانيا باستخدام صواريخَ بعيدةِ المدى، الذي اعتبره خبراءُ بمثابة ردٍّ أميركي على نشر بوتين قواتٍ من كوريا الشمالية بالآلاف في مدينة كورسك الروسية.

في واقع الأمر، أدّى قرار بايدن بشأن الصواريخ البعيدة المدى، والتعهد الروسي بالردّ عليها، إلى تسليط الضوء على حملة بوتين السرّية الانتقامية التي يقودها ضدّ الغرب، التي على ما يبدو ما زالت مستمرّةً في شكل حروب ظلّ هجينية واسعة النطاق. ففي 18 نوفمبر/ تشرين الحالي تناقلت وسائل إعلام غربية أخبار قطع كابلَين للاتصالات بالألياف الضوئية تربط فنلندا بألمانيا، والسويد بليتوانيا، وهذه دول في حلف شمال الأطلسي المعادي لروسيا، ما أثار الشكوك، وفق المصادر، في مسؤولية روسيا عن تلك الأعمال، وما سبقها من أعمال مماثلة في بحر الشمال بعد انفجار أنانيب الغاز عام 2022. واليوم، بعد حالة التصعيد الجديدة بين روسيا والغرب، بسبب أزمة الصواريخ، قد تلجأ موسكو إلى تنفيذ عمليات استخبارية، وربّما تنفيذ عمليات اغتيال سرّية ضدّ مسؤوليين غربيين، وأوروبيين، بهدف إجبارهم على إيقاف دعم أوكرانيا بصواريخ بعيدة المدى. من جانب آخر، من المرجّح أن يزيد بوتين دعمه لكياناتٍ وجماعاتٍ معاديةٍ للغرب، كتزويد الحوثيين بصواريخ كروز لاستهداف السفن الغربية في طُرق الملاحة البحرية ببحر العرب، وهذا أمر متوقّع بعد حديث تقارير عن عثور على أسلحة روسية في مستودعات حزب الله في لبنان، بمعنى أنّ السلوك الروسي في دعم كيانات معادية للغرب ليس بجديد، وقد تستمرّ موسكو في هذا التكتيك وسيلةَ ضغطٍ لإجبار الغرب مرّة أخرى على إيقاف تقديم الدعم لأوكرانيا، إلى جانب تعزيز شراكتها الدولية مع دول شرقية معادية للغرب، وزيادة زخم التعاون مع دول "بريكس" حيث شهدت القمة الأخيرة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي موجةَ زخم مرتفعة ضدّ الغرب، بعد انضمام دول جديدة، ومشاركة دول للمرّة الأولى في القمّة مثل تركيا، الحليف المهمّ في الناتو.

هذه الأوراق كلّها التي يملكها بوتين (إلى جانب تهديده باستخدام السلاح النووي) سيعمل في توظيفها ضمن حزمة أهدافه الاستراتيجية التي يسعى لتحقيقها انطلاقاً من أوكرانيا وسورية وصولاً إلى وضع موطئ قدم في النظام الدولي الجديد، عبر صفقة كبرى مع الرئيس دونالد ترامب حينما يبدأ رسمياً فترته الثانية في 20 يناير/ كانون الثاني المقبل. وبالرغم من حالة الاستعصاء التي تمرّ بها روسيا في أوكرانيا، ومحاولة بايدن تعقيد المشهد قبل مغادرته البيت الأبيض، إلّا أنّ روسيا ما زالت مشرّعةً أبوابها أمام الحلول الدبلوماسية مع الغرب، وقد أعربت عن نيّتها بعد فوز دونالد ترامب في الانتخابات مواصلة المفاوضات مع الولايات المتحدة، برؤيتها الخاصّة، لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وكانت وكالة رويترز قد سرّبت وثيقةً عن شروط روسيا لإنهاء الحرب، تنطلق من اعتراف الغرب لروسيا بالواقع الحالي في أوكرانيا.

روسيا استطاعت منذ 2022 وحتى 2024 احتلال 18% من الأراضي في شرق أوكرانيا، وأجرت انتخابات في مقاطعات دونيتسك ولوغانسك وزابورجيا، وضمّت تلك المناطق إلى الدستور الروسي، وتطمح إلى تشكيل حكومة موالية لها في غرب البلاد (في كييف)، وتضع شرط عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، في مقابل إيقاف الحرب، وتُطالب الناتو بسحب صواريخه التي نشرها في شرق أوروبا. في المقابل، يرفع الرئيس الأوكراني فلوديمير زينلينسكي من سقف طموحاته، ويُصرّ على انسحاب روسيا من كامل بلاده، شرطاً لإيقاف الحرب.

هذه الشروط المتناقضة ستكون محلّ نقاش موسّع في مسار تفاوضي، ألمح الرئيس المنتخب، دونالد ترامب، إلى نقاشها مع بوتين، لكنّه في المقابل كان قد طلب (في أحد تصريحاته في أثناء حملته الانتخابية) من الرئيس زيلينسكي التفاوض مع بوتين، والقبول بشروطه لإنهاء الحرب، مشدّداً على رفضه استمرار تقديم بلاده ملايين الدولارات بسبب حرب كان قد وصفها "بالغبية". مع ذلك، وبالرغم من مؤشّرات التقارب بين ترامب وبوتين، لا أحد يستطيع التكهّن بسير الأمور، فترامب الذي حمل شعار إنهاء الحروب، لم يفصح بعد عن الآليات التي سيتّبعها لتحقيق ذلك، فربما تلك الأدوات لم تُحدّد بعد، ولن تتّضح إلّا بعد بدء مسار تفاوضي أميركي روسي بقيادة ترامب، مع بقاء احتمال حصول عنصر المفاجأة، فالإرث والقيود اللذان سيتركهما بايدن لترامب، ستجعل مهمّة الأخير غايةً في الصعوبة، وقد لا تنجح هذه المرّة لغة رجل الأعمال بعقد صفقات جانبية، من دون الأخذ بعين الاعتبار مهدّدات جميع أعضاء الناتو ومشكلاتهم، والشركاء في دول الاتحاد الأوروبي. عندها قد يخيب أمل بوتين في رهانه على ترامب، وتذهب الأمور إلى منعطفات خطرة، في مواجهة شاملة مع الناتو. آنذاك سيشهد العالم امتحان بوتين الأخير حول تهديداته النووية التي يلوح بها منذ غزوه أوكرانيا، وقد تقود الحسابات الخاطئة إلى اقتراب شبح حرب عالمية ثالثة قال عنها وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، إنها قادمة وعلينا الاستعداد لها.

لا بدّ من تأكيد أنّ الموقف الغربي ما زال يُقلّل من تهديدات بوتين باستخدام السلاح النووي، ويعتبرها حركاتٍ ترهيبيةً، إذ سبق لناتو تجاوز الخطوط الحمراء مع بوتين بعد تزويد أوكرانيا بدبّابات ومنظومات دفاعية، وطائرات إف 16. مع ذلك، لم يتجاوز بوتين عتبة التهديد. فهل سيختلف الأمر هذه المرّة مع وصول الصواريخ بعيدة المدى إلى داخل العمق الروسي؟ ... لعلّ الإجابة تتضح في حال فشلت الصفقة بين بوتين وترامب.