العدد 1653 /26-2-2025
"اتخذت
قرار إجراء عملية عسكرية خاصة"، و"سنسعى لتحييد سلاح أوكرانيا ونزع
النازية"، كلمات نطق بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، صبيحة مثل هذا اليوم
قبل ثلاث سنوات، ليستيقظ العالم على واقع جيوسياسي مغاير، مع بدء موسكو الحرب
الأوكرانية بغزو واسع النطاق وتعرّض أغلبية المدن الأوكرانية لعمليات قصف روسية
مكثفة. هكذا بدأت في 24 فبراير/شباط 2022 أكبر حرب تشهدها أوروبا منذ الحرب
العالمية الثانية (1939 - 1945)، مرت خلال ثلاث سنوات بمراحل مختلفة بدءاً من تقدم
روسي سريع ووصول قوات موسكو إلى مشارف كييف، ثم تغير الوضع على الأرض لصالح
أوكرانيا التي حصلت على كميات غير مسبوقة من الأسلحة الغربية عالية الدقة، مكّنتها
من إقصاء القوات الروسية من مقاطعتي خاركيف وخيرسون، قبل أن تتغيّر موازين القوى
لصالح روسيا مرة أخرى وتحقيقها تقدماً، ولو بوتيرة بطيئة، في مناطق شرقي أوكرانيا
يوماً بعد يوم منذ نهاية عام 2023.
مستقبل الحرب
الأوكرانية
إلا أن الحدث
الأبرز الذي بات يرسم ملامح مستقبل الحرب الأوكرانية وآفاق تسويتها اليوم، لم يقع
في ساحة المعركة، وإنما وراء المحيط بعد تنصيب الرئيس العائد إلى البيت الأبيض،
دونالد ترامب، في 20 يناير/كانون الثاني الماضي، رافعاً شعارات إنهاء الحرب وتقليص
الدعم المقدم لكييف، وانعقاد أول جولة من المحادثات الروسية الأميركية في الرياض
الأسبوع الماضي بمشاركة وزيري الخارجية الروسي سيرغي لافروف، والأميركي ماركو
روبيو. يأتي ذلك وسط ترقب أول قمة بين بوتين وترامب قد تنعقد خلال بضعة أسابيع.
وفي حال انعقد مثل هذا اللقاء، ستكون هذه أول قمة روسية أميركية منذ لقاء بوتين
والرئيس الأميركي السابق جو بايدن، في جنيف في عام 2021.
ويتوقع نائب رئيس
اتحاد الدبلوماسيين الروس، الأستاذ بالمدرسة العليا للاقتصاد في موسكو، أندريه
باكلانوف، أن تشهد السعودية خلال الفترة المقبلة لقاءات روسية أميركية جديدة،
مقراً في الوقت نفسه بأنها لن تفضي بالضرورة إلى إنهاء النزاع على وجه السرعة
نظراً لجذوره العميقة. ويقول باكلانوف الذي عمل سفيراً روسياً لدى السعودية في
أعوام 2000 - 2005، في حديث لـ"العربي الجديد" إن "اختيار السعودية
وجهة للمحادثات الروسية الأميركية جاء منطقياً تماماً، إذ لم تعد روسيا ترى في
سويسرا وسيطاً محايداً، بينما استطاعت السعودية الحفاظ على العلاقات مع الولايات
المتحدة وتطوير التعاون مع روسيا في آن معاً، وقد تصبح وجهة تستضيف مثل هذه
اللقاءات بشكل منتظم، بما في ذلك القمة المرتقبة بين بوتين وترامب، خصوصاً أن
السعودية أظهرت مستوى متقدماً للوجستيات والبروتوكولات التي أشرف عليها الديوان
الملكي نفسه وليس فقط وزارة الخارجية".
ومع ذلك، يقر
باكلانوف بأن انطلاق قطار المحادثات الروسية الأميركية لا يعني أن الحرب الأوكرانية
ستنتهي تلقائياً، مضيفاً: "حتى الآن لا تقدّم في الملف الأوكراني، إذ لم يتم
النظر فيه سوى في سياق وضع إطار للمفاوضات المرتقبة. صحيح أن ترامب أدرك أن خطوط
روسيا الحمر تشمل رفض انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي (ناتو) ونشر أي وسائل
غربية ضاربة على الحدود مع روسيا، ولكنه لم يستوعب الأسباب العميقة للنزاع الأشبه
بحرب أهلية يصعب إنهاؤها عبر حل وسط". وحول رؤيته لملامح تجميد النزاع
والتنازلات التي قد يقدمها كل طرف، يرى باكلانوف أنه "قد يوافق ترامب على
تغيير السلطة في كييف حتى لا تكون على رأسها شخصيات ذات اتجاهات قومية متشددة،
وتقييد قدرات الجيش الأوكراني، وضمان عدم انضمامها إلى الأطلسي، بينما ستمتنع
روسيا عن مواصلة التقدم للسيطرة على باقي مناطق أوكرانيا. سترفض موسكو أي ضغوط
أميركية لخفض مستوى علاقاتها مع الصين، ولكن العلاقات مع إيران قد تكون على
الطاولة من دون استعداد روسيا لتقديم تنازلات كبيرة أيضاً".
من جهته، يعتبر
المحلل السياسي والصحافي المتخصص في الشأن الأوكراني المقيم في موسكو، ألكسندر
تشالينكو، أن روسيا حققت بعض الانتصارات العسكرية والجيوسياسية في الحرب
الأوكرانية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، من دون أن تتمكن من الوصول إلى حل جذري
لإنهاء وجود دولة معادية لها على حدودها مباشرة أو زرع حكومة موالية فيها. ويقول
تشالينكو في حديث لـ"العربي الجديد": "على الصعيد الاستراتيجي،
أسست روسيا جيشا قويا حديثا يعتمد على المسيّرات والمدفعية عالية الدقة، ليصبح على
المستوى التكتيكي واحداً من أقوى جيشين في العالم إلى جانب الجيش الأوكراني،
متفوقين على الجيوش الغربية وحتى على الجيش الأميركي من جهة الخبرة القتالية
الميدانية. كذلك تم الإثبات أن الغرب لا يملك أدوات لردع روسيا بعد فشل العقوبات
الاقتصادية وتأنّي الدول الغربية في دعم أوكرانيا خشية من الترسانة النووية
الروسية". وحول رؤيته لما حققته روسيا في الحرب الأوكرانية، يشير تشالينكو
إلى أنه "في عام 2022، جرى استرداد الأراضي الروسية تاريخياً، وأقيم ممر بري
من روسيا القارية إلى شبه جزيرة القرم عبرها، مما يساعد في الحد من المخاطر المتعلقة
بتعرض جسر القرم للضربات الأوكرانية. ميدانياً، تقترب روسيا من إحكام السيطرة
الكاملة على مقاطعة لوغانسك، ولكن أراضي شاسعة في مقاطعات دونيتسك وزابوريجيا
وخيرسون لا تزال خارج سيطرة موسكو".
ومع ذلك، يقر
تشالينكو بأن موسكو لا تزال بعيدة عن تحقيق أهدافها طويلة الأجل في أوكرانيا،
قائلاً: "لم يتحقق هدفا نزع النازية وتحييد سلاح أوكرانيا، ولم يتم سحق
النخبة السياسية والعسكرية الأوكرانية وفق نموذج إلحاق هزيمة كاملة بألمانيا
النازية في الحرب العالمية الثانية، ما يعني أن حرباً جديدة قد تندلع بعد عشر
سنوات، مثلاً، طالما تخضع أوكرانيا وسكانها لتأثير القوميين المتشددين. في حال
ألحقت روسيا هزيمة كاملة بأوكرانيا وزرعت سلطة موالية لها، لكان يمكن الحديث عن
تأسيس علاقة صداقة وفق نموذج ألمانيا وفرنسا اللتين تشكلان النواة الصلبة للاتحاد
الأوروبي رغم الحروب السابقة بينهما".
من جهته، أكد
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أمس الأحد، عزمه "الثابت" على تعزيز جيشه
في عالم يشهد "تغييرات سريعة"، من أجل ضمان "السيادة الحالية
والمستقبلية" لروسيا. وقال بوتين في خطاب بمناسبة "يوم المدافعين عن
الوطن" في روسيا: "في سياق التغيرات السريعة في العالم، تظل
استراتيجيتنا في تعزيز وتطوير القوات المسلحة ثابتة". وأكد "سنواصل
تحسين القدرات القتالية للجيش والبحرية وجهوزيتهما للمعركة، كمكون أساسي لأمن
روسيا وضمانة لسيادتها الحالية والمستقبلية". وأكد بوتين أنه يريد تجهيز
قواته المسلحة بـ"نماذج حديثة جديدة" من الأسلحة والمعدات،
و"هنأ" الجنود الذين يقاتلون في أوكرانيا منذ ثلاث سنوات، واصفاً إياهم
بـ"أبطال وطننا العظيم". وأضاف: "يخاطرون بحياتهم ويظهرون الشجاعة،
ويدافعون بإصرار عن وطنهم والمصالح الوطنية ومستقبل روسيا".
تغيير صورة
الدولة الأوكرانية
من جانب آخر، يتوقع
الأستاذ المساعد في قسم النظرية السياسية في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية،
كيريل كوكتيش، أن تحقيق هدف تغيير صورة الدولة الأوكرانية بات ممكناً بعد عودة
ترامب، مستبعداً احتمال قبول روسيا بتجميد النزاع مرة أخرى عبر آلية، على غرار
محادثات مينسك للتسوية التي لم تؤت أكلها بعد بدء النزاع المسلح في منطقة دونباس
شرقي أوكرانيا في عام 2014. ويقول كوكتيش لـ"العربي الجديد": "على
الرغم من سنه الكبير، إلا أن ترامب يمثل الشق الشاب من الدولة العميقة الأميركية
ويحظى بدعمه، كما أنه لا يحبذ الرئيس الأوكراني الحالي فولوديمير زيلينسكي، الذي
يُحسب على سلفه بايدن. أتوقع أن يقبل ترامب ضمنياً بانتهاء وجود الدولة الأوكرانية
بصورتها الحالية، بينما روسيا لن تكرر خطأ القبول بتجميد النزاع مثلما حدث في عام
2014".
من جهته، يرى
المحلل السياسي المقرب من الكرملين، مدير المجلس العلمي بمركز المتغيرات السياسية،
أليكسي تشيسناكوف، أن "تسريع فريق ترامب لبعض العمليات ليس بأمر غريب"،
مقراً في الوقت نفسه بأن تصدر المسار الأوكراني للمشهد لا يخلو من المخاطر، نظراً
لما اعتبره "تعنّت زيلينسكي وتعمده إطالة أمد اللعبة بدعم من الأوروبيين".
وقال تشيسناكوف في منشور على قناته على منصة تليغرام، قبيل حلول ذكرى اندلاع الحرب
الأوكرانية إن "ترامب يتعين عليه التصرف على وجه السرعة نظراً لمنطق السياسة
الداخلية في الولايات المتحدة نفسها"، قبل انتخابات التجديد النصفي في العام
المقبل وتمكن خصومه ومنافسيه من عرقلة العمليات ما لم يحقق ترامب نتائج سريعة
وجلية. وفي مؤشر جديد لعزم روسيا وأميركا ـ ترامب مواصلة الاتصالات، كشف نائب وزير
الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، أول من أمس السبت، أن مشاورات روسية أميركية
رفيعة ستنعقد خلال أسبوعين لمناقشة كيفية إزالة "عوامل الإزعاج" في العلاقات.
في السياق، نقلت صحيفة إزفستيا الروسية، أمس الأحد، عن ريابكوف قوله إن الاجتماع
المقبل بين روسيا والولايات المتحدة في السعودية بشأن الجهود الرامية لإنهاء الحرب
الأوكرانية سيكون على مستوى رؤساء الإدارات وليس على مستوى نائبي وزيري الخارجية.