العدد 1481 /6-10-2021

بقلم: عبد الحكيم حذاقة

بعد أشهر من التفاؤل بتقدّم العلاقات الجزائرية الفرنسية، الذي أنعشه فتح حوار رئاسي مباشر بخصوص "قضايا الذاكرة" العالقة بين البلدين منذ نصف قرن، انهارت على نحو مفاجئ الجهود الدبلوماسيّة وعادت إلى نقطة الصفر.

وجاء التطور السلبي على خلفيّة تصريحات الرئيس إيمانويل ماكرون، خلال استقباله 18 شابا فرنسيا من أصل جزائري الخميس الماضي في قصر الإليزيه، لمناقشة مسألة "مصالحة الشعوب"، حيث تساءل أمامهم: "هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟".

وأكثر من ذلك، علّق ماكرون على وضع السلطة في الجزائر بقوله "إنّ النظام السياسي العسكري في الجزائر بُني على ريع مرتبط بالذاكرة"، معتبرًا أنّ "من يصنع الكراهية والعداء ضد فرنسا هو النظام السياسي والجيش وليس الشعب الجزائري".

وتجرّأ ماكرون على وصفه بأنه "نظام منهك"، وقال "لديّ حوار جيد مع الرئيس عبد المجيد تبون، لكنني أرى أنه عالق داخل نظام صعب للغاية".

رد الجزائر وتطور الأزمة

ولم يتأخر ردّ السلطات الجزائرية، إذ أعلنت رئاسة الجمهوريّة، مساء أمس السبت، استدعاء سفيرها لدى باريس للتشاور.

وقالت -في بيان لها- إن"الجزائر ترفض رفضا قاطعا أي تدخُّل في شؤونها الخاصّة"، وإن "جرائم فرنسا الاستعمارية في الجزائر تعدّ ولا تحصى، وتستجيب لتعريفات الإبادة الجماعية.. التي لا تسقط بالتقادم".

ونقلت وسائل إعلام عن قيادة الجيش الفرنسي، اليوم الأحد، أن طائراته العسكرية لم تحصل على ترخيص للتحليق في الأجواء الجزائرية خلال رحلاتها نحو الساحل الأفريقي.

وقبل أقلّ من أسبوع، استدعت الخارجية الجزائرية السفير الفرنسي لديها، فرانسوا غوييت، احتجاجًا على تخفيض التأشيرات الممنوحة للجزائريين إلى النصف، ضمن قرار يخص دولًا مغاربيّة.

ويأتي التوتّر الجديد في علاقات البلدين، غير المستقرّة أصلا، في حين سبق للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أن عبّر مرارًا عن ثقته المطلقة بـ"منطق ماكرون وطريقته في رؤية الأشياء".

وقال تبون في حوار سابق مع فرانس 24 "مع ماكرون نستطيع الذهاب بعيدا في التهدئة وفي حل المشاكل المتعلقة بالذاكرة، هو رجل نزيه ونظيف تاريخيًّا، وأعتقد أنه صادق في كل ما يقوله".

وفي قراءة الحدث، يرى أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة عنابة عبد السلام فيلالي أن "سياق تصريحات ماكرون المستفزّة تجاه الجزائر تفسره الانتخابات الرئاسية القادمة".

وعدّها "مؤشرا على عدم ضبط النفس وفقدان الصبر، أمام ضغط الشارع الفرنسي الذي يقيّم حصيلة الرئيس سلبيا، إلى جانب ضغط منافسيه المحتملين، خاصة الصعود الغريب لإريك زمور في استطلاعات الرأي، التي يمكن قراءتها بعدم الاقتناع بما حدث في سنوات حكمه".

ويضيف فيلالي للجزيرة نت أن "هناك خيبة أمل فرنسية كبيرة من ماكرون شخصيا، أقرؤها وأسمعها في تعليقات الفرنسيين".

ويعتقد فيلالي أن كلام ماكرون السلبي عن النظام الجزائري "ينمّ عن قلق كبير جدا، نتيجة خسارة بلاده نفوذًا كان يجلب لها مليارات الدولارات من مسؤولين فاسدين".

ومن جهته، أكد الباحث والمحلل في علم الاجتماع السياسي بفرنسا، فيصل ازدارن، أن "العلاقات الجزائرية الفرنسية تزداد هشاشة، على عكس ما تغنّى به مسؤولو البلدين، إذ يكفي أن يصدر تصريح ليُحدث شرخا آخر بينها، و يرجع بعجلة التاريخ إلى عهد المأساة الاستعمارية".

ويرى ازدارن أن "استدعاء السفير الجزائري في باريس بقصد التشاور لن يكون حدثًا معزولا، فما هو معلوم في الأعراف السياسية أن التصريحات الرسمية الجانبيّة بمنزلة رسائل سياسية مشفرة".

وقال للجزيرة نت إن استعراض ماكرون رؤيته للنظام الجزائري واتهامه شخصيات، من دون تسميتها، بالتشدد والتحجر، يعدّ تدخلًا صارخًا في الشؤون الداخلية للجزائر، مردفا أنه "أمر لا يُغتفر، بحكم أن الجزائر لطالما رافعت ضد أي تدخل في كل المحافل الدولية".

ويعتقد ازدارن أن ماكرون تخطى مسؤوليته السياسية ليخوض في التاريخ، لا ليجيب عن أسئلة عالقة، بل ليشكك في تاريخ الأمم الأخرى بنظرة مركزية أوروبية، عندما تساءل عن وجود أمة جزائرية قبل الاجتياح الفرنسي.

وعدّ حديث ماكرون "تزييفا للحقائق، بل إشادة بالإنجازات الإيجابية لفرنسا الاستعمارية في الجزائر"، مؤكدا أنه "يكشف عن عقيدته التي لا تختلف كثيرا في نظرته إلى الاستعمار عن عقيدة أنصار الجزائر الفرنسية، وهذا يعيد إلى الأذهان المادة الرابعة من قانون تمجيد الاستعمار لسنة 2005".

وفسّر المتحدث صبّ ماكرون اللوم على الوجود التركي في الجزائر بالاستياء الفرنسي من مزاحمة شركاء جدد لوجوده فيها وفي شمال أفريقيا ودول الساحل.

وربط المسألة أيضا بقرار خفض التأشيرات، ليؤكد أنّ هذه الأحداث المتسلسلة يراد منها الدخول في مواجهة دبلوماسية ذات أعماق جيو-إستراتيجية وأمنية واقتصادية محل نزاع واختلاف بين النظامين الفرنسي والجزائري.

مصالحة الذاكرات ليست قريبة

ومن جانب آخر، كشف الأكاديمي الجزائري بومدين بوزيد أن تصريح ماكرون بأن "السلطة السياسية والعسكر في الجزائر يتغذّون من ريع الذاكرة" ليس جديدا، بل ورد في نص بن جامان ستورا، المكلّف من الرئيس الفرنسي بإعداد تقرير عن "آلام الذاكرة"، إذ يرى أن "لا فائدة من الاعتذار والتوبة التي يطالب بها الجزائريون فرنسا عن ماضيها الاستعماري".

ولأن الجزائر لم ترد على هذا التقرير، الذي صار رسميًّا بتبنّيه من السلطة الفرنسية وتطبيق بنوده منذ يناير/كانون الثاني 2021، فطبيعي أن ينسب ماكرون تعطيل المصالحة بين الذاكرات إلى السلطة الرسمية للجزائريين، حسب بومدين بوزيد.

ولقد "اعتقد ماكرون أن الاعتراف بمقتل علي بومنجل (1957) وإرجاع بعض جماجم رموز المقاومة الشعبية خطوات كافية ليكون الرد إيجابيًّا من الجزائر"، كما يضيف بومدين.

ويشدد على أن "مصالحة الذاكرات لن تكون بالرؤية نفسها بين فرنسا وألمانيا، أو بين اليابان وأميركا، لأن استعمار قرن و30 سنة جريمة ضد الإنسانية، ودْينُ فرنسا تجاه الجزائر لا يُقضى بتبادل الاحتفاء برمزيات تاريخية".

وخلص إلى التأكيد أن "أفق مصالحة الذاكرات ليس قريبًا، لأن ذلك مرتبط أولًا بالتخلي عن عقدة التفوق الاستعماري التي تتحكم في ذهنية السلطة الفرنسية، وكذا روح الهيمنة والجشع في إبقاء بلدان المغرب حديقة خلفية للفرنسيين وسوقا اقتصادية لنهب خيراتها".