العدد 1653 /26-2-2025

محمد أبو رمان

يعلّق سياسيون عرب وغربيون كثيرون بأنّ سورية خرجت من عباءة إيران ودخلت في عباءة تركيا، وهي لا تزال مسرحاً للنفوذ الإقليمي وضحية لمصالح هذه الدولة أو تلك. وهذا قياسٌ قد يكون واقعياً في المجمل، لكنّه على أرض الواقع يقفز عن الاختلافات الجوهرية بين الاستراتيجيتَين الإقليميتَين، الإيرانية والتركية، بالرغم من أنّ كلا الدولتين ترسم سياستها الخارجية، بالضرورة، وفقاً لمنطق المصالح السياسية والاقتصادية وتصوّرات كل منهما لأمنها القومي.

اختلط النفوذ الإيراني في المنطقة العربية بالمسألة الطائفية التي فجّرت الخلافات الداخلية في العديد من دول المشرق العربي، بخاصة في العراق وسورية، وأدّى ذلك إلى تحوّل كبير في مسار بعض الحركات الأصولية، مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بدايةً، الذي استثمر الاعتبارات الطائفية في العراق لتجنيد أعداد كبيرة، ثم الصحوات السنية التي اعتبرت ما وصفته بـ"الاحتلال الصفوي الفارسي" أشدّ خطراً من الاحتلال الأميركي وانقلبت على "داعش"، وقاتلت لصالح الأميركيين بعد أن تحولت قناعات عديدين من قيادات هذه المجموعات المقاومة سابقاً بأنّهم سيخسرون المعركة في حال وقفوا ضد الأميركيين وإيران والسلطة الجديدة في الوقت نفسه.

بالإضافة إلى حرصها على السيطرة على العواصم ومدّ نفوذها بدرجة كبيرة سياسياً وطائفياً؛ تجنبت طهران الاعتماد فقط على الحكومات، بل بُنيت الاستراتيجية الإيرانية على أدوار "الجماعات المسلّحة" التي شكّلتها في العراق وسورية واليمن ولبنان، وجعلتها متواصلةً مباشرةً معها، عبر فيلق القدس، ما أدّى إلى وجود أكثر من سلطة هذه الدولة وأحدث حالة من الفوضى وأضعف الدولة الوطنية بصورة أساسية، ما انعكس على صورة إيران لدى الرأي العام العربي، بخاصة بعد الحرب على سورية التي وقفت فيها طهران مع النظام السوري ودفعت مقاتلي حزب الله إلى هناك، وولّد أزمات إقليمية وداخلية ذات بعد طائفي!

صحيحٌ أنّ الصورة الأخرى لإيران كانت أفضل حالاً على صعيد الرأي العام العربي، بخاصة في ما يتعلّق بشعارات المقاومة والممانعة، ودعمها بقوة حركة حماس وحزب الله في لبنان، لكن هذه الصورة كانت مشوبة بمشكلات وأسئلة وازدواجية كثيرة؛ والمفارقة الكبرى أنّه بالرغم من الضربات القاسية التي تعرّضت لها إيران خلال الحرب على غزّة، وخسارتها جزءاً كبيراً من نفوذها الإقليمي في لبنان وسورية، وارتباك أوضاعها في العراق، فإنّ هذا أيضاً قاد أصدقاء إيران وحلفاءها إلى التساؤل عما إذا كانت مستعدة للتضحية بهم من أجل حماية المركز، وأنّهم فقط أحجار أو بيادق في لعبة إيران الإقليمية!

على الجهة المقابلة، فإنّ السياسة الخارجية التركية، بالرغم من التقلب الذي شهدته، بخاصة منذ لحظة الربيع العربي، وحالة التوتر والتهدئة التي مرّت بها علاقتها بدول عربية عديدة، وتحوّل أنقرة وإسطنبول إلى ملاذ لآلاف المعارضين الإسلاميين العرب؛ إلاّ أنّ سياسة تركيا اتسمت بالبراغماتية والتكيّف مع المتغيّرات على صعيد العلاقة مع الولايات المتحدة، وحتى مع روسيا، ولم تتورّط في المشكلات الطائفية في العالم العربي. وساعدتها في هذا مسألتان: أنّها قوة سنية، مقارنة بالجيوبوليتيك الشيعي، وحالة الفراغ الاستراتيجي في المنطقة، مع انكسار النظام الإقليمي العربي، واضمحلال أدوار كل من العراق وسورية وانكفاء مصر خلال الفترة الماضية لمعالجة مشكلاتها الداخلية.

على النقيض من إيران، لم ترفع تركيا شعارات المقاومة، لكنّها أخذت بعداً دبلوماسياً في المواجهة مع تل أبيب، وعملت على ترميم علاقتها بالدول العربية، حتى التي شهدت علاقتها معها توتراً كبيراً، مثل الإمارات ومصر، وقدّم الرئيس أردوغان تنازلاتٍ عديدة على صعيد مواقفه الشخصية لتصويب مصالح بلاده في المنطقة. وبعد فترة بدت فيها السياسة التركية في حالة من الترنّح والتراجع، ما انعكس على الحالة الداخلية، جاء سقوط بشار الأسد بمثابة مفتاح لدور تركي جديد في المنطقة، وبدلاً من القلق من وجود علاقة قوية بين أحمد الشرع وأنقرة، أصبحت دول المنطقة والدول الغربية ترى في تركيا وسيطاً قادراً على رعاية النظام الجديد، ومنعه من الانهيار أو الانجراف نحو مسارات خطيرة.

بالضرورة، لا نتحدث هنا عن مسائل محسومة أو مطلقة، على قاعدة الأبيض والأسود، إنما عن سياسات ومصالح، والسؤال اليوم: هل يمكن أن يكون الدور التركي محفّزاً لتطوير توازن قوى جديد إقليمياً في مواجهة الهيمنة الإسرائيلية، من دون الارتطام بالمسألة الطائفية؟ وهل يمكن أن تكون الرعاية التركية للنظام السوري الجديد ضرورية لمساعدته في مرحلة الانتقال وتطوير قدراته، أم أنّ غياب تركيا بوزنها في هذه الملفات الرئيسية هو الأفضل؟ سؤالان برسم الإجابة للسياسيين والمثقفين العرب.