العدد 1619 /3-7-2024
علي أنوزلا
الاحتمال كبير أن يصل اليمين المتطرّف في فرنسا
إلى السلطة الأحد المقبل، وحتى إذا فشل في الحصول على الأغلبية المطلقة في الدورة
الثانية من الانتخابات التشريعية، بفعل تحالف اليسار والجمهوريين والحزب الحاكم
لقطع الطريق أمامه، فلا شيء سيوقف زحفه نحو السلطة في الانتخابات الرئاسية عام
2027. وكان خطر وصوله في فرنسا إلى السلطة قد دفع رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون
إلى التحذير من "حربٍ أهلية" إذا تحقق فوز هذا اليمين في اقتراع الأحد
المقبل. وفي أميركا، يشكل الرئيس السابق، دونالد ترامب، الذي لا يُخفي شراهته
للسلطة الديكتاتورية، تهديداً وجوديّاً لديمقراطية بلاده، إذا جرى انتخابه رئيسا
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 المقبل، وكما قال هو نفسه، سوف يحاول أن يصبح
"ديكتاتوراً ليوم واحد"!
وفي الحالتين، الفرنسية والأميركية، المخاوف كبيرة
من أن يسعى اليمين الفرنسي المتطرف، والرئيس الأميركي السابق المتهوّر، إلى
استعمال السلطة أداة للانتقام لسحق معارضيهم واستعمال وسائل الدولة لنشر أفكارهم
العنصرية والمعادية للقيم الديمقراطية، والقضاء على استقلال القضاء وحرّية
الإعلام. وقد أدّى الخوف من زحف اليمين على السلطة في فرنسا، كما في أميركا، إلى
أن تتحوّل الحملات الانتخابية التشريعية الفرنسية، والرئاسية الأميركية، إلى ما
يشبه الاستفتاء الشعبي على مستقبل الحكم الديمقراطي في الدولتين، مع ما يرافق
الحملتين الانتخابيتين في البلدين من هيمنةٍ للعنف اللفظي والتنابز بالألقاب،
وتبادل الاتهامات بين المرشّحين وهيئاتهم السياسية، بدلا من تنافس البرامج،
ومناقشة الأفكار، واستعراض الخطر الداهم الذي يهدّد ديمقراطيتهما.
اليمين المتطرّف آخذ في التمدّد في دول أوروبية
غربية عديدة، وهو اليوم موجود في السلطة بالفعل في خمس من الدول الأعضاء السبع
والعشرين من دول الاتحاد الأوروبي. وأحرز في انتخابات البرلمان الأوروبي، أخيراً،
تقدّماً مثيراً للقلق داخل أكبر محفل ديمقراطي أوروبي.
ما نعيشه اليوم هو "الموجة الرابعة" من
مدّ اليمين المتطرّف بعد الحرب العالمية الثانية، والذي تطوّر من مجرّد مجموعات
يمينية صغيرة متطرّفة تعيش على هامش الديمقراطيات الغربية، إلى أحزابٍ سياسيةٍ
أصبحت تحقّق تدريجيا اختراقاتٍ في انتخابات بلدانها، قبل أن تُشكل قوى سياسية
قادرة على المنافسة والنزال الديمقراطي وصل زعماؤها إلى السلطة في الولايات
المتحدة والمجر وإيطاليا والنمسا وبولونيا، بل وفي الأرجنتين والهند وفي البرازيل
في عهد رئيسها السابق اليميني المتطرّف، جايير بولسونارو، واليوم أصبح اليمين
المتطّرف، في كل مكان، يشكّل أكبر خطر يهدّد الديمقراطية الليبرالية الغربية في
أكثر من بلد.
لم يأت هذا الصعود من فراغ، وإنما جرى التمهيد له
من خلال التطبيع إعلاميا مع الخطاب اليميني المتطرّف والعنصري، خصوصاً تجاه
الأجانب، وغذّته السياسات النيوليبرالية لحكومات أوروبية كثيرة ومثيلاتها في دولٍ
أخرى، وشجّعه نهج المقاربات الأمنية في القضايا الاجتماعية والمجتمعية التي أدّت
إلى الإضرار بالمكاسب في مجال حقوق الإنسان والحقوق الاجتماعية وحقوق الأقليات
والحرّيات العامة، وإلى التشكيك في التقدّم المُحرز في مجال البيئة وحماية التنوع
البيولوجي ومواجهة خطر التغيّر المناخي. كما أعطت سياسات الكيْل بمكيالين التي
نهجتها حكومات غربية في التعاطي مع قيمها الديمقراطية، عندما تعلق الأمر بالحرب في
أوكرانيا، وموقفها من حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل ضد الفلسطينيين،
وأدّت إلى السقوط الأخلاقي للمنظومة القيمية الغربية، كلها عوامل أعطت المبرّرات
الكافية والمسوّغات "المشروعة" لليمين المتطرّف لتسويق خطاباته
المتطرّفة والعنصرية ضد الأجانب، وخصوصاً ضد المهاجرين العرب والمسلمين في الغرب.
يتحمّل المسؤولية الأساسية في هذا الصعود اليميني
المتطرّف في أوروبا وأميركا القادة الغربيون الليبراليون الجدد، الذين دمّروا كل
القيم التي كانت تقوم عليها مجتمعاتهم، وعزّزوا عدم المساواة الاجتماعية، من أجل
إثراء أنفسهم ومن يحمونهم بشكل شنيع وفظيع، وساهموا في تنمية الاستياء الشعبي من
أنظمة حكمهم، وأدّوا إلى فقدان ثقة الناس في السياسة والسياسيين، وأفسحوا الطريق
أمام المهرّجين والديماغوجيين والشعبويين الذين عرفوا كيف يستغلون حالة الاحتقان
الاجتماعي داخل بلدانهم، لكسب أصوات الغاضبين والحانقين والمستائين من أوضاعهم
الاجتماعية.
بات استيلاء اليمين المتطرّف على السلطة، وعبر
صناديق الاقتراع، الخطر السياسي الأكبر الذي يرهق قادة الدول الغربية ونخبها،
خصوصاً في فترة يشهد فيها العالم توتّرات وحروباً جيوسترتيجية كبيرة، ويعرف
اضطرابات اقتصادية واجتماعية عميقة، وتتهدّده كوارثُ مناخية خطيرة. وقد أدّى صعود
اليمين المتطرف في أوروبا وفي أميركا والهند، وفي بعض بلدان أميركا اللاتينية إلى إضعاف
هيمنة نموذج "الاستثناء" الذي كانت تمثّله الديمقراطية الليبرالية
الغربية، وأصبح يؤشّر على خطر التآكل الذي يتهدّد معظم الديمقراطيات الليبرالية
أينما وجدت، ويمهد لعودة الديكتاتوريات ويقوّي من سطوة الأنظمة الاستبدادية التي
لم تعد تخشى من أن يملي عليها الغرب دروسه عن الديمقراطية واحترام حقوق وكرامة
الإنسان!
مهما كانت الديمقراطيات راسخة وعريقة تبقى غير
محصّنة، لأن خصومها يستعملون أدواتها للقضاء عليها من داخلها، وكما حصل في تجربة
المجر، لقد نجح رئيسها اليميني المتطرّف، أوربان، الذي انتُخب بطريقة ديمقراطية في
تحويلها من ديمقراطيةٍ ليبراليةٍ إلى دولة استبدادية، وفشلت المعارضة المحلية
والدولية الضعيفة في ثنيه على فرض استبداده. ولا شيء يضمن أن يتكرّر السيناريو
نفسه في دول أخرى، مثل فرنسا وأميركا، لو عاد ترامب إلى الرئاسة، ونجح اليمين
المتطرّف في الاستيلاء على السلطة في فرنسا.
وأخيرا، علينا أن نغيّر الطريقة التي نقيّم بها
الديمقراطية الليبرالية الغربية والتهديدات اليمينية المتطرّفة التي تواجهها،
فناسٌ كثيرون يعتقدون أن الديمقراطيات تموت على يد مناهضين صريحين لها يستخدمون
وسائل غير ديمقراطية لهدمها، مثل الانقلابات العسكرية وتزوير الانتخابات والتحايل
على القوانين. لكن معظم الديمقراطيات الليبرالية الغربية أصبحت اليوم مهدّدة من
الداخل، ومن منتخبين بطريقة ديمقراطية يعملون ببطء على هدمها من الداخل، وغالبا ما
يفعلون ذلك باسم الديمقراطية وفي احترام كامل لقواعدها!
والطريق الوحيدة لإنقاذ الديمقراطية الليبرالية
الغربية من حالة الانهيار التي تتهدّدها هي العودة إلى قيمها الحقيقية، وجعلها
صالحة لجميع الشعوب، وليست حصرا على الشعوب الغربية، لأن هذا الاستثناء الشوفيني
في تطبيق القيم والقواعد الديمقراطية، وسياسات الكيل بمكياليْن بين الشعوب الغربية
وغير الغربية، هو الذي أوجد المبرّرات والمسوّغات لليمين المتطرّف لتسويق خطابه
المتطرّف والدفاع عن أطروحاته الشوفينية ونشر أفكاره العنصرية داخل مجتمعاته وبين
شعوبه التي أصبحت تصوّت لصالحه.