العدد 1679 /3-9-2025
ظاهر صالح
تشهد شوارع العواصم الأوروبية ازدحاما متزايدا يوما بعد
يوم بآلاف المتظاهرين الرافضين للعدوان الإسرائيلي المستمر على غزة، فيحرص هؤلاء
المتظاهرون على المشاركة والتعبير عن غضبهم وتضامنهم مع شعب مظلوم، تجمعهم به قيم
إنسانية وشعور أخلاقي وتعاطف وجداني. في المقابل، يبدو الشارع العربي صامتا، وكأن
الغضب والاحتجاج لا يعرفان إليه سبيلا، على الرغم من قربه الديني والجغرافي
والوجداني والوطني من القضية. وبالمثل، يمكن مقارنة حركات الاحتجاج ضد الحرب في
غزة، التي تشهدها العواصم الأوروبية والجامعات الأمريكية باستمرار منذ بدايتها،
بغياب مماثل لهذه الحركات في العواصم والجامعات العربية، فبينما انتشرت فكرة هذه
الاحتجاجات وأساليبها إلى جامعات أوروبية عديدة، لم تحرك ساكنا في العالم العربي
الذي يسوده الهدوء والركود، على الرغم من الغضب الظاهر والتغريدات على منصات
التواصل الاجتماعي.
تثير هذه المقارنة بين المشهدين تساؤلات عديدة لدى
المتابعين والمهتمين، أهمها: لماذا يبدو المشهد على طرفي نقيض؟ أو بعبارة أدق،
لماذا يبدو الشارع العربي ضعيفا ومستكينا وهادئا، على الرغم من أن قضية الحرب في
غزة هي الأقرب إليه دينا وجغرافيا وتاريخا وانتماء؟
لماذا يبدو الشارع العربي ضعيفا ومستكينا وهادئا، على
الرغم من أن قضية الحرب في غزة هي الأقرب إليه دينا وجغرافيا وتاريخا وانتماء؟
هل يعود إحجام المواطن العربي، سواء كان طالبا أو عاملا
أو غير ذلك، عن التظاهر والاحتجاج إلى خشية الشعوب من القمع الذي تمارسه السلطات
العربية؟
وهل تعرضت الشعوب العربية، وما زالت تتعرض، لعمليات
تدجين وغسيل دماغ مستمرة من قبل الأنظمة الرسمية العربية، بهدف إقناع المجتمعات
بالتركيز على مصالحها الشخصية الداخلية؟
وهل يُصوَّر الخروج للمطالبة بوقف الحرب في غزة على أنه
غير مجدٍ، بالإضافة إلى تصوير التظاهر والاحتجاج في الشارع على أنه فعل يقترب من
كونه جريمة في حق الوطن؟ أم أن الأنظمة العربية تخشى من تحول التظاهرات المؤيدة
لغزة إلى تظاهرات مناهضة لها؟
من الواضح أن ارتباط معظم الأنظمة الحاكمة في الدول
العربية بالقوى المهيمنة، وعلى رأسها الولايات المتحدة وحليفتها
"إسرائيل"، قد حوّل الحكومات العربية إلى حكومات متخاذلة ومتواطئة، ومع
تفسخ النظام العربي وانهياره منذ عشرات السنوات، لم يعد بالإمكان الحديث عن موقف
عربي موحد.
وفي هذا السياق، فإن أحد الأسباب التي دفعت حكومة
الاحتلال الإسرائيلي إلى استباحة الدم الفلسطيني في غزة يرجع إلى قناعتها بعدم
وجود رد فعل عربي مؤثر على أفعالها، وبسبب الشتات الذي تعيشه الدول العربية اليوم.
يأتي التواطؤ والتخاذل العربي على الرغم من امتلاك العرب
ورقة ضغط قوية، تتمثل في النفط والمقاطعة الاقتصادية، والتي يمكن استخدامها للضغط
على إسرائيل وحلفائها على المستويات الحكومية كافة، إلا أن الأنظمة العربية فضلت
المتاجرة بالقضية الفلسطينية، وحتى جامعة الدول العربية لم تعتبر الحصار المفروض
على غزة، بما في ذلك استخدام التجويع كأسلوب حرب من قبل إسرائيل، جريمة حرب وجريمة
ضد الإنسانية، ولم يتضمن قرارها الصادر في 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، موقفا
عربيا موحدا إزاء هذه الجرائم، مما يعكس تخاذلها. وبالمثل، لم تتخذ المجموعة
العربية أي مبادرة في مجلس حقوق الإنسان أو في مجلس الأمن أو في الجمعية العامة
للأمم المتحدة لاستصدار قرار أو توصية بوقف إطلاق النار أو فتح ممرات للإغاثة
الإنسانية. أما السلطة الفلسطينية في رام الله، فقد تحولت تدريجيا إلى ذراع أمني
للاحتلال، وهي تفتقر إلى الشرعية، ويستخدمها الاحتلال فقط لمطاردة المقاومين،
ولتقييد الحقوق والحريات في الضفة الغربية.
أهل غزة، الذين تخلى عنهم القريب والبعيد، يدافعون عن
شرف وكرامة الأمة العربية والإسلامية. غزة تستصرخ شعوب العروبة، وتذكرهم بجرحها
الغائر، الأعمق من أي سلاح؛ جرح ستحمله الأجيال في ذاكرتها، قصصا وحكايات وآلاما
تسكن وجدانهم، وتبقى حاضرة كوشم طعنات تفنن الأشقاء قبل غيرهم في رسمها! غزة
تذكركم كيف يزحف الأسى إلى عيون أطفالها ونسائها وأهلها، وكيف انعدمت السبل وانسدت
الطرق أمامهم ليُتركوا وحدهم ويُقتلوا ألف مرة كل يوم!
أسئلة كثيرة ومؤلمة قد تجعلنا نفقد القدرة على استيعاب
ما يجري من عجز وضعف، فتبدو لنا كأنها حقائق مُسلَّمة. ولكي لا تقتصر معرفتنا على
الكلام الانفعالي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، فكلنا يعلم أن التاريخ والذاكرة
لن يرحما أحدا، خاصة بعد أن غطى الأسى عيون أهل غزة، ونال القهر والعذاب من
أحلامهم، وجفت استغاثاتهم وتصحّرت آمالهم بأمة أصابها حب الذات والملذات، والذل
والهوان.
في غزة، القلوب مثقلة بالحزن والوجع، والحياة شاحبة في
العيون، والآلام تخنق الحناجر، والأصوات ترتجف رهبة، والدموع تفيض أسى، والصُّدور
تكاد تختنق من ضيق الأنفاس.
هذه هي الحقيقة التي يجب الإفصاح عنها ومواجهتها: نحن
أولى بغزة من غيرنا، مع كل الاحترام والتقدير لصحوة العالم الحر وتكذيبه للسردية
الصهيونية القائمة على الكذب والتدليس وتزوير الحقائق.
ألم يحن الوقت بعد للعالمين العربي والإسلامي ليُظهِرا
شهامتهما، وتنتفض ضمائرهما نصرة لغزة ورفعا للحصار عنها؟ وإلى متى يظل العالم
صامتا؟