العدد 1635 /23-10-2024

بينما لا تزال قوات الجيش المصري على طول الحدود الفاصلة بين سيناء وقطاع غزة في حالة استنفار، منذ بدء الحرب على القطاع في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، يستمر جيش الاحتلال الإسرائيلي في "تكريس وتطوير" احتلاله محور صلاح الدين (فيلادلفي) الحدودي مع مصر، والذي بدأ في مايو/ أيار الماضي، حيث يعتمد، في ذلك، على تمكين وجوده من خلال إنشاء بنى تحتية وطرقات، ووضع وسائل تكنولوجية عديدة متطورة، بما يؤكد عدم نيته الانسحاب من تلك المنطقة ومحاولته فرض أمر واقع جديد فيها. ووفقاً لمشاهد وردت من منطقة الحدود، أنشأ جيش الاحتلال طريقاً معبّداً من ساحل بحر مدينة رفح الفلسطينية، وصولاً إلى معبر كرم أبو سالم، كما أنه أقام عدة نقاط عسكرية ومواقع محصّنة على الحدود، وكذلك وضع خطوط إنارة واتصالات وتكنولوجيا مراقبة في المنطقة، من المفترض، بحسب اتفاقيات ومعاهدات دولية، ألا تكون موجودة فيها.

وضعية محور صلاح الدين

في المقابل لا يزال المسؤولون في مصر، يراهنون على إقناع الأميركيين بممارسة الضغط على رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، من دون اتخاذ أية خطوات عملية على الأرض، من أجل مواجهة هذا التغيير في الوضع القانوني للمحور. وذكرت مصادر لـ"العربي الجديد" أن ملف محور صلاح الدين سيأتي على رأس مباحثات وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، المقرر وصوله إلى القاهرة اليوم الأربعاء. وقال المساعد السابق لوزير الخارجية المصري، عبد الله الأشعل، لـ"العربي الجديد" إن "ما تريده إسرائيل، تعزيز الوضع الجديد على محور صلاح الدين وعينها على سيناء، ولكن بالطبع فإن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، تنص على أن إسرائيل لو فعلت ذلك، ستنتهي المعاهدة نفسها التي تم توقيعها في مارس/آذار 1979، بضمان الولايات المتحدة، إذ تنص المعاهدة على أن أميركا تضمن مصر في تحقيق معاهدة السلام، وتتصدى لها إذا انتهكت هذه الاتفاقية، ومصر وافقت على هذا الكلام". وأضاف: "لذلك العلاقات الثنائية بين مصر وإسرائيل جيدة، ومضمونة من ناحية أميركا الحريصة جداً على تلك العلاقة".

من جهته، اعتبر نائب رئيس المركز العربي للدراسات السياسية والاستراتيجية، مختار الغباشي، لـ"العربي الجديد" إن "محور صلاح الدين منصوص عليه في اتفاقيات دولية عديدة، منها معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية 1979 وأوسلو 1993، و1995، واتفاقية المعابر 2005، والتي تم الإقرار فيها بأن هذا المحور، شريط أمني، وهناك نصوص قانونية تحدد وجود 750 جندياً مصرياً فقط في هذا المحور". وأكد أن "ما فعلته إسرائيل يخالف الاتفاقيات، ويحتاج وقفة كبيرة من مصر لإيقاف ما يحدث على الحدود، وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه سابقاً، ولكن للأسف لم نلمس أي تغيير في الموقف المصري".

مصر متفرجة

أما الباحث مهند صبري، فاعتبر في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "مصر تقف موقف المتفرج الصامت منذ احتلال محور صلاح الدين، فلم نر أي رد رسمي ولا دبلوماسي على ذلك، وطبعاً لا رد واقعياً على الأرض"، مضيفاً أن "إسرائيل تعيد رسم قطاع غزة بأكمله، بما يناسب خططها وحدها. وأستبعد أن يكون لمصر أي موقف حيال الأفعال الإسرائيلية، وهو الدافع الأكبر لإسرائيل لأن تفعل ما يحلو لها على طول خط الحدود الدولية". وأضاف صبري أن "نتنياهو يؤكد ما قاله وما يقوله وزراؤه من أن لا انسحاب من الشريط الحدودي مع مصر أو أي مكان آخر في غزة، حتى ولو تم تدمير كل قدرات حماس العسكرية، وحتى لو عاد الأسرى الإسرائيليون، وهذا كلام معلن من إسرائيل وليس رسائل مشفرة أو أمرا يصعب فهمه. أما عن مصر، فما يمكن أن تفعله سؤال مختلف عن ما تريد أن تفعله، فالسنة الماضية كان المسؤولون المصريون يقولون إن إسرائيل هي من تغلق الحدود، ولكن الواقع يؤكد أنه خلال 13 شهراً من الحرب، لم تفعل مصر شيئاً لغزة وشعبها، فهي تركز على مصالحها في ظل هذه الحرب، وترى أن الموافقة على أي شيء تقوم به إسرائيل، حتى لو كان خرقاً للاتفاقية، حماية لمصالحها".

ونشرت وسائل إعلام إسرائيلية صوراً عن محور صلاح الدين وتظهر الصور طريقاً مرصوفاً بخطوط فاصلة وأرصفة جانبية يبدو أنها جديدة، كما تظهر الصور إشارات المرور ومنها إشارات التوقف والإبطاء. يذكر أن محور صلاح الدين شريط حدودي لا يتجاوز عرضه مئات الأمتار، يمتد بطول 14.5 كيلومتراً من البحر المتوسط حتى معبر كرم أبو سالم على الأراضي الفلسطينية بين شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة. ويعدّ منطقة عازلة بموجب معاهدة السلام الموقّعة بين مصر وإسرائيل عام 1979.

إنّها بداية الحكاية لا النهاية. تُكتب ملاحم الشعوب، وتَخْلُد وتُخلّد، عندما تختلط البدايات بالنهايات. ما يتبدّى نهاية لأيّ منها يكون بداية لتاليها. تصير نقطة الفناء ذاتها تجسّداً صوفياً وانبعاثاً في الحياة طولاً وعرضاً. تُرافق الملحمة الناسَ ويهتدون بها، تصير ابنتهم الحبيبة. تتجذّر وجوه أبطالها في حيوات الأفراد واجتماعهم وتاريخهم ومقبل أيامهم، فيحيا هؤلاء مع من يحيا من أولئك. أسطورة البطل وحدها من تتحدّى محاولاتِ الموت شطب أسماء البشر من الوجود. قليلون هم المُتعالون فوق الشطب اللحظي، رافضين مدحلة الموت اليومي حيث كانت حياة. يموت الناس ويذهبون إلى الفناء، يقوم الفرسان منهم لحظة موتهم ويتوشّحون وسام البقاء. اليوم يوم قيام الفارس المُلثّم. كم صار ممشوق القامة وطويلها. كيف صار طويلاً إلى هذا الحدّ يلاحقه الناس بنظراتهم إذ تغوص كتفاه في سقف السماء!

اليوم ولدت أسطورة، ومن هنا نبدأ. كم من الأجيال القادمة ستقرأ في سماوات البلاد تفاصيل الحكاية. ما كان لتراجيديا قيام عنقاء فلسطين إلّا أن يكون لها بداية تليق بالأساطير، تستدعي كنعان ومعه تمرّ على الجبال كلّها، وتحضن الزيتون كلّه. أكتوبر صناعتك العبقرية هو أكتوبر حضنك النهائي، كأنما أعطاك عمراً فسيحاً مديداً طوله عام كامل من الرصاص. في كلّ ثانية منه كان هناك إكسيرُ سحرٍ غريبٍ من العناد، والعرق، والدم، والدمع، يتكوّن في قلب الأرض التي عشقتَها وعشقَتْك. كم هي المساحات التي قطعتها فوق الأرض وتحتها في ذاك العام الخرافي! كم هم الشهداء الذين عانقتهم وتعشق جسدك رائحة دمهم! كم هي أخبار الثكالى التي أوجعت قلبك، فحبست دمعك؟ اليوم تتعشّق فلسطين، وملايين ناسها ومن سيأتون غداً وبعد غد، دمَكَ وروحَكَ وغضبَك.

يوم صعدتْ ولُدت أسطورة في امتداد سماء فلسطين، يحتلّها وجهك الصارم، ساعدك المُغبرّ، وتروح فيها وتجيء روحك العنيدة. 22 عاماً في سجونهم يحاولون كسر الروح. هزمْتَهم في سجنهم، وخارج سجنهم. في الخارج، كانت ثمّة 13 سنة فقط استكملت مسيرة العناد. كم منّا يجلس على قارعة الروتين أطول من ذلك بكثير! لا أثر. صعدت نجماً، أيقونة تظلّ تبرق في أرواح أجيال قادمة. يوم ظنّ العدو أنّ النهاية جاءت، وصلت معها بدايات كثيرة. هكذا تقول الحياة، وهكذا يقول من يريدها بهامة عالية. وهكذا ردَّد أولاد المدارس حكاية عنقاء الأرض التي لا تموت.

في كلّ أسطورة فروسية، يخبرنا التاريخ، هناك أنذال على الهامش يُفرحهم سقوط الفارس. فروسيته تُخجِلهم، شجاعته تُعرّيهم، تفضح خنوعهم، وتذيبهم في مستنقع قميء حفرته حكايات البشر منذ بدء الخليقة. لما يلتفتون حولهم ليشاركوا فرحهم الغادر مع غيرهم لا يجدون سوى عدوّهم يدقّ الطبول، عدوّ الفارس ذاته. يرتبكون لوهلة، ثمّ يكابرون، يصفّقون للقاتل فيما حذاؤه يسدّ أفواههم. يُعلون أصواتهم آملين أن يُخفي عويلُ صراخهم عمقَ النذالة، لكنّهم يغرقون أكثر. في كلّ قصة فروسية كوضوح الشمس هناك غدر كوضوح الخنجر في الظهر. ثمّة في الوسط جبناء يتردَّدون، ينتظرون نهاية المعركة كي يُحدّدوا موقعَ أقدامهم. قال أحدهم، الجبن ليس عيباً، لكنّه الجريمة.

الفارسُ الصاعدُ تواصل ساعداه وكتفاه الغوص في سقف السماء. يتابعه الناس، شجعانهم، أنذالهم، جبناؤهم. ترجع رقاب الناظرين إلى الخلف يلاحقون فوران الريح حول رأس الملثّم وساعديه الداميتين الصلبتين. يتساءل بعضهم: ماذا يفعل صاعداً في سقف السماء؟... يجيب عارفوهم: إنّه يرفع السقف من أجلنا وعلينا. أسقفُ فلسطين ظلّت ترتفع واحداً إثر الآخر من الجليل وثلاثية عكا الحمراء، إلى حيفا ويعبد وقسّامها، وقوفاً في كلّ مدينة وقرية ومُخيّم. خارج حدود الأرض ظلّت الأسقف تُصنع وتُرفع، في بيروت غسان كنفاني وكمال عدوان، في تونس أوّل الرصاص وأوّل الانتفاضة، ثمّ عودة إلى حيث رُفِعت السقف الأولى، وقافلة لم تنته بأبي عمّارها. اليوم وعلى طول درب الدم المزنّر بين مخيَّمَي خانيونس وتلّ السلطان يرتفع سقف الأسقف، عالياً كما لم يَعلُ من قبل. سقف سماء جديدة تُتعِب القادمين الجُدد. هذا ولد المخيّمات، ابن الأرض يصول في شمالها وجنوبها، يحرثها بالحُبّ والوعد، سليل المُغبرين من المجدل. يُقسِم بالتين والزيتون قسمَ أجيال من قبله ومن بعده أنّ نهاية الدرب المُعبّد بالعناد واضحة كالشمس، يتكئ اليوم على حافة سقف السماء، مُلثّماً، ناظراً، ناشراً ساعديه جسراً لأجيال قادمة معبأة بالصهيل.