العدد 1421 / 15-7-2020
قطب العربي
لم
تتعامل النخب المصرية مع قضية آيا صوفيا باعتبارها شأنا داخليا تركيا، باعتبار
تركيا دولة ذات سيادة، ولها الحق في تنظيم شؤونها الداخلية دون تدخل من أحد، ولكن
هذه النخب تصدت واستنفرت ضد قرار المحكمة الإدارية العليا التركية بإعادة متحف آيا
صوفيا إلى سابق عهده كمسجد يرفع فيه الأذان وتقام فيه الصلوات، وظهر انفلات أعصاب
البعض حين راحوا يهددون ويتوعدون الرئيس أردوغان بالويل والثبور وفظائع الأمور،
وكأن آيا صوفيا جزء من التراب المصري احتله أردوغان.
من
المؤسف أن الحملة ضد قرار القضاء التركي لم تقتصر على أذرع النظام، فالعيب حين
يأتي من أهله ليس بمستغرب، ولذا كان التصريح الغاضب الصادر عن مستشار دار الإفتاء
أمرا تقليديا في هذا الإطار، ولكن المستغرب أن يتصدى للأمر شخصيات محسوبة على
المعارضة الليبرالية واليسارية وحتى بعض السلفية، بعضهم بدافع التعصب القومي
العربي ضد الترك، حيث الثارات التاريخية بين الطرفين، وبعضهم بدافع التعصب
العلماني، وبعضهم بدافع التعصب الطائفي، مثل نجيب ساويرس الذي توعد أردوغان برد
فعل من كل المسيحيين في العالم، وكأنه صاحب توكيل حصري في الحديث باسم المسيحيين
في العالم.
بعض
الأصوات المصرية حاولت أن تجد لها صلة بالأمر لتبرر غضبها على القرار التركي،
فاكتشفت بعد بحث عبر جوغل أن آيا صوفيا هي قديسة مصرية من البدرشين، كانت وثنية
وتنصرت، ودفعت حياتها ثمنا لدفاعها عن عقيدتها، وأن الإمبراطور قسطنطين باني
القسطنطينية وباني كنيستها؛ أمر بإحضار رفات القديسة صوفيا من مصر وأطلق اسمها على
كنيسته الجديدة.
لكن
ما يشكك في صحة هذه المعلومة أن كنيسة آيا صوفيا كانت تمثل الكنيسة الأرثوذكسية
الكبرى في العالم (الخلقدونية أو الملكانية)، وغالبية الأقباط المصريين هم من
الأرثوذكس اليعاقبة الذين اختلفوا مع كنيسة آيا صوفيا التي أرادت فرض تصوراتها
وعقائدها عليهم في ما يخص طبيعة المسيح، كما حاولت فرض بطاركة للإسكندرية لكن
أقباط مصر قاوموا كل ذلك، ودفعوا ثمنا كبيرا.
لذا
لم تبد الكنيسة المصرية حتى كتابة هذا المقال موقفا متتشددا من تحويل متحف آيا
صوفيا إلى مسجد، وفي الأغلب فإنها لو دُفعت لاتخاذ موقف فسيكون موقفا سياسيا
منطلقا من الموقف العام للنظام الحاكم الذي دعمته ولا تزال، وليس موقفا مستند إلى
مبررات عقدية.
ولا
يمكن هنا الاحتجاج بموقف رجل الأعمال الشهير نجيب ساويرس بحسبانه منتميا للطائفة
الأرثوذكسية، لأنه كسياسي قبطي علماني فإنه كاره لأردوغان ولما يمثله من مشروع
سياسي في كل الأحوال.
في
تقديري أن غالبية الشعب المصري سعيد بعودة آيا صوفيا لوضعها كمسجد، لكن هذه
الغالبية إلا قليلا منها؛ لا تستطيع التعبير عن رأيها خوفا من بطش النظام الذي
يعتبر أن معركته الرئيسية بل والوحيدة مع تركيا، رغم أن معركة الشعب المصري ليست
مع تركيا بل مع من يحرمها من المياه، ومن يحرمها حق الحياة.
في
خطابه عقب صدور قرار المحكمة التركية العليا، ذكر الرئيس أردوغان جملة تتعلق بمصر
حين نقل عن الشاعر التركي يحيي كمال (1922): لهذه الدولة يوجد أصلان معنويان، هما
أمانة السلطان الفاتح (منارة آيا صوفيا واستمرار صدح الأذان بها)، والأمانات التي
أتى بها السلطان سليم من مصر، وهو يقصد هنا عباءة رسول الها صلى الله عليه وسلم
وسيفه اللذين كانا محفوظين في مصر، ولكن السلطان قرر نقلهما إلى العاصمة. ويوجد في
تركيا مكان خاص لهما في مسجد "الخرقة الشريفة"، والتي تعني عباءة الرسول
صلى الله عليه وسلم، وهو المسجد الذي يشهد احتفالات المولد النبوي الشريف.
لم
تغب آيا صوفيا عن الوعي المصري، وقد بكاها شاعر النيل حافظ إبراهيم بقصيدة مؤثرة
حين تم تحويلها إلى متحف، وقال في قصيدته:
آيا
صوفِيا حانَ التَفَرُّقُ فَاِذكُري
عُهودَ
كِرامٍ فيكِ صَلّوا وَسَلَّموا
إِذا
عُدتِ يَوما لِلصَليبِ وَأَهلِهِ
وَحَلّى
نَواحيكِ المَسيحُ وَمَريَمُ
وبمناسبة
الشعر، فإن أحد الشعراء والكتاب الأتراك، وهو عثمان يوكسال سردان جاتشي، دفع حياته
ثمنا لقصيدة كتبها عن آيا صوفيا تنبأ فيها بعودة آيا صوفيا كمسجد يرفع فيه الأذان
وتقام فه الصلوات، ويكون فتحا جديدا.