العدد 1579 /13-9-2023
نائلة خليل
بعد 30 عاماً على اتفاق أوسلو الموقّع في 13
سبتمبر/أيلول 1993، فرض الاحتلال الإسرائيلي وقائع ميدانية لا تترك أي إمكانية
لقيام دولة فلسطينية متصلة وقابلة للبقاء في الضفة الغربية المحتلة التي أصبحت
دولة المستوطنين. في المقابل، بات على الأمن الفلسطيني مهمة حماية الاحتلال
والمستوطنات، بناء على اتفاق تتمسك به القيادة الفلسطينية، وتنصّل منه الاحتلال
منذ زمن بعيد.
وتسيطر مشاهد عديدة على الشارع الفلسطيني منذ أكثر
من عامين تعكس كيف حوّلت إسرائيل السلطة الفلسطينية من سلطة حكم ذاتي إلى وكيل
أمني بموجب اتفاق أوسلو. فمن اعتقال المقاومين ومصادرة أسلحتهم وتعذيبهم، إلى
إطلاق النار على المتظاهرين، واقتحام مداخل المخيمات لإزالة سواتر الحماية ضد
الاحتلال بالقوة، وصولاً لاستخدام مركبات عسكرية مشابهة للاحتلال، ونصب الحواجز
العسكرية لاصطياد المطاردين، كلها تطورات تكشف عن دور السلطة الفلسطينية راهناً.
اتفاقية أوسلو قال عنها الرئيس الفلسطيني الراحل
ياسر عرفات عند توقيعها قبل ثلاثين عاماً إنه "كان الاتفاق الممكن وليس
الأفضل"، لكن هذا الممكن أدى إلى اغتيال عرفات بالسم عام 2004. واليوم يأكل
الفلسطينيون الثمار المُرّة لأوسلو، الاتفاق الذي وقّعوا عليه بدون أي خبرة
قانونية أو تفاوضية مسبقة عام 1993، مقابل ما أراده عرفات وفق تعبيره "وضع
قدمه على أرض الصراع الحقيقي في الساحة الفلسطينية".
يقول الدبلوماسي السابق، وابن شقيقة عرفات،
الدكتور ناصر القدوة، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن عرفات "افترض
أن هذا الاتفاق يعني دولة، وعمل على هذا الأساس، وفرض مجلساً تشريعياً لم يكن
موجوداً في النص، وفرض مطار غزة الذي لم يكن موجوداً في النص أيضاً، وفي ذهنه أننا
ذاهبون إلى الدولة غير الموجودة في الاتفاق أصلاً".
ويلفت إلى أن "اتفاقية أوسلو لم تعد موجودة
منذ عام 2002 عندما اجتاحت إسرائيل كل الضفة الغربية، وهدمت المقار الأمنية،
وأزاحت الوجود الفلسطيني عن المعابر السيادية، وتجبي الضرائب كما تريد وبما يتناقض
مع الاتفاق"، مضيفاً "على الرغم من ذلك السلطة تتمسك بأوسلو لتبرير وجودها،
أي إنها موجودة بحكم الاتفاقيات، وإسرائيل تدرك أن الاتفاقية انتهت لكنها لا تعلن
ذلك، لأن وجود السلطة الفلسطينية بشكلها الحالي كوكيل أمني مهم لإسرائيل".
ويتابع القدوة: "على سبيل المثال نصّ الاتفاق
بما يتعلق بالتنسيق الأمني، على التالي: "يجب تنسيق لجنة عليا أمنية بهدف
مناقشة الأمور ذات الاهتمام المشترك"، وحالياً جزء كبير من رجال الأمن في
السلطة لديهم اتصال مباشر مع ضباط أمن الاحتلال". ويتحدث عن "مثال آخر،
فمنذ عشر سنوات لم يجر تحويل ضريبة المعابر إلى السلطة، حسب ما نصّ عليه
الاتفاق"، مضيفاً "هذه أمثلة بسيطة من مئات البنود التي لم تعد تلتزم
بها إسرائيل منذ سنوات، وبالتالي أين اتفاق أوسلو؟". ويعتبر أن "إسرائيل
نجحت عبر 30 سنة من عمر الاتفاق بتغيير وظيفة السلطة، وجعلها تقتصر على كونها
وكيلاً للاحتلال، تقدّم خدمات أمنية بالأساس، وليست سلطة حكم ذاتي، لذلك القيادة
الفلسطينية الحالية محمية ومدعومة من قبل الحكومة الإسرائيلية".
أوسلو البداية أم النهاية؟
بالنسبة للرئيس الراحل ياسر عرفات أراد أن يكون
اتفاق أوسلو البداية لدولة فلسطينية مستقلة. في البداية كان يفحص كل التفاصيل
لدرجة أنه صباح 13 سبتمبر/أيلول 1993 وعندما وصلته النسخة الأخيرة من إعلان
المبادئ، التي ظل فريقه يطلبها من الأميركيين الذين ماطلوا حتى اكتشف أن النسخة
التي وصلته قبل ساعات من التوقيع كان مطبوعاً فيها على يمين الصفحة "الحكومة
الإسرائيلية"، وفي الجانب الآخر من الصفحة "عن الفلسطينيين" بدلاً
من "عن منظمة التحرير الفلسطينية". حينها رفض الخروج من الفندق وبقي
ينتظر إلى أن قام الفريق الأميركي بتعديلها وإعطائه النسخة الأخيرة التي راجعها
على رصيف الفندق الخارجي، وقبل الصعود إلى السيارة التي أقلّته إلى حفل التوقيع في
البيت الأبيض.
بعد عام، أي في الاتفاق اللاحق لأوسلو والذي عُرف
باتفاق "غزة أريحا" عام 1994، يبدو أن عرفات استسلم تماماً للضغوط
الإسرائيلية والأميركية والعربية، لا سيما أن اتفاق أوسلو كان قد كبّله بالفعل،
فخرج اتفاق "غزة أريحا" باحتفاظ إسرائيل بسيطرة مطلقة على الأراضي
الفلسطينية كافة. وتطرق الاتفاق بالتفصيل، وفي صيغ قانونية وملاحق أربعة، إلى
الرضوخ الكامل للسيطرة الإسرائيلية الكاملة، حتى على المدن التي استلمتها السلطة
في غزة وأريحا، فضلاً عن مطالب إسرائيل في الإقرار بحق المطاردة الساخنة للمقاومين
داخل الأراضي التي تسيطر عليها السلطة. ومن الجدير ذكره أن هذه الملاحق الأمنية
الأربعة غير منشورة على أي موقع فلسطيني رسمي حتى الآن.
على الرغم من كل ما سبق، فإن عرفات كان يعتقد أنه
يستطيع أن يبدأ رحلة التحرر عبر "موطئ القدم" في الضفة الغربية الذي
أراده وأعطته إياه الاتفاقية.
يقول الخبير في الشؤون الإسرائيلية معاوية موسى،
لـ"العربي الجديد"، إن الباحثين الإسرائيليين وصفوا "أوسلو"
بشكل مطابق لما قاله كل من رئيسي الحكومة الإسرائيليين الراحلين إسحاق رابين
وشيمون بيريز "اتفاقاً أمنياً بهوامش سياسية"، فيما رأى فيه عرفات
"اتفاقاً سياسياً بهوامش أمنية، وهنا حصل التناقض الكبير منذ اللحظة الأولى
لتوقيع الاتفاق بين المقاربتين".
ويشير إلى أن "كل من ألقى نظرة سريعة على
بروتوكول اجتماع الحكومة الإسرائيلية الذي ناقشت فيه المصادقة على اتفاق إعلان
المبادئ في أوسلو يومي 30 و31 أغسطس/آب 1993 والذي سمحت الرقابة العسكرية بنشر
أجزاء واسعة منه، يمكنه الاستنتاج بسهولة بأن إسرائيل لم تكن جدية في التوصل
لاتفاق سياسي بقدر ما كانت لديها رغبة بالتخلص من قطاع غزة بالدرجة الأولى،
والمسؤولية المدنية عن السكان الفلسطينيين في الضفة، وتحديد مساحات محددة لهم
تعزلهم فيها، وتستولي على باقي أرجاء الضفة الغربية خدمة للتوسع الاستيطاني، أو
بمعنى آخر إعادة هيكلة الحكم العسكري الإسرائيلي من جديد في الضفة الغربية، وتطوير
أدوات ووسائل التحكم والسيطرة على الفلسطينيين".
في كتابه "سنوات الأمل"، يقول السياسي
مروان كنفاني الذي كان ضمن الحلقة الضيقة مع عرفات، خلال مرحلة إعداد وتوقيع اتفاق
أوسلو: "رفض الإسرائيليون منذ بدء المفاوضات الإشارة أو الإيحاء أو القبول
بأي صيغة تشير إلى مستقبل العملية السلمية، أو أهدافها، واعتبروا أن كل مرحلة من
مراحل المفاوضات قائمة بذاتها، وليست جزءاً من سياق متدرج، للتوصل إلى الهدف
النهائي الذي هو إنهاء الاحتلال".
يرى نبيل عمرو، مستشار عرفات، في حديث
لـ"العربي الجديد"، أن "اتفاقية أوسلو انتهت من قبل الجانب
الإسرائيلي، ولكن الجانب الفلسطيني الرسمي ما زال يتعاطى مع بقايا الاتفاقية
كمشروع قابل للإنقاذ، والرهان الفلسطيني عالٍ جداً على أن يقوم الأميركيون
والأوروبيون بمنع انهيار الاتفاقية بصورة مطلقة ونهائية".
ويضيف عمرو: "الموقف الرسمي الفلسطيني ما زال
يراهن على الموقف الأميركي، وفي المقابل لا توجد استجابة أميركية أو أوروبية، أو
حتى إقليمية حول ما تبقّى من أوسلو، وبالتالي كل الدول منشغلة باتفاقيات التطبيع
الإسرائيلي العربي وإلى أي مدى ستستمر".
من جهته، يرى أمين عام حركة "المبادرة
الوطنية" مصطفى البرغوثي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه لم يبق
من أوسلو سوى الالتزامات المفروضة على الجانب الفلسطيني، وللأسف الشديد فإن رئيس
الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو فعل كما وعد في كتابه الذي أصدره عام 1994
"مكان تحت الشمس" بأن يُسقط اتفاق أوسلو وينهيه.
ويلخص البرغوثي ثلاثة أخطاء جوهرية ارتكبتها
القيادة الفلسطينية ساعدت في "انهيار أوسلو"، "أولاً: عدم الإصرار
على وقف الاستيطان كشرط لتوقيع الاتفاق، كما أصر الوفد الفلسطيني الذي كان يقوده
حيدر عبد الشافي في مدريد عام 1991، وهذا شرط جرى تجاهله بالكامل". ويضيف
البرغوثي الذي شارك في المفاوضات المتعددة في مدريد عام 1991: "ثانياً كان
اتفاق انتقالي من دون تحديد الهدف النهائي، وهذا خطأ استراتيجي كبير، لأنه ترك
إسرائيل تستخدم المماطلة في المفاوضات لتضييع الحقوق الفلسطينية". ويتابع:
"ثالثاً قَبِل المفاوض الفلسطيني بتجزئة الأراضي الفلسطينية إلى
"أ" و"ب" و"ج"، وهذه التجزئة خلقت واقعاً جديداً
خطيراً أتاح لإسرائيل مواصلة التحكم في منطقة "ج" التي تعادل 61 في
المائة من إجمالي مساحة الضفة الغربية، كما تريد، وتستخدمها قاعدة
للاستيطان".
إلى جانب ملفات الوضع النهائي التي بقيت عالقة وهي
السيادة، والقدس، واللاجئين، والمياه، كان الاستيطان هو الملف الأصعب، والذي برعت
إسرائيل بجعله أمراً واقعاً يُجهض ليس فقط حلم الدولة الفلسطينية، وإنما جميع ما
سبق من ملفات.
يقول مروان كنفاني في كتابه "سنوات
الأمل"، أمام تخوّف عرفات من عملية إقامة المستوطنات التي بدأت إسرائيل
ببنائها بشكل عشوائي وفي سباق مع الزمن، أخبره رابين "أن بعض هذه المستوطنات
غير قانوني، لأنها لم تنشأ بقرار من الحكومة". ويتابع: "كما أكد رابين
على مسمعي ومسمع أعضاء الوفد الفلسطيني المفاوض أنه لن يسمح بتوسيع أي مستوطنة
قانونية موجودة إلا في حدود 50 متراً فقط من أبنيتها الحالية، وفقط لأغراض الزيادة
السكانية الطبيعية، وإلى حين التوصل إلى اتفاق حول المستوطنات الإسرائيلية على
الأراضي الفلسطينية المحتلة بشكل كامل ونهائي".
بعد 30 عاماً تشير المعطيات المتعلقة بالاستيطان
إلى ارتفاع أعداد المستوطنين في الضفة الغربية، بما فيها القدس، إلى أكثر من مائة
بالمائة، بحيث تجاوزت أعدادهم اليوم 700 ألف مستوطن.
وفي هذا الشأن، يشير خبير الاستيطان خليل تفكجي،
في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أنه عشية توقيع اتفاق أوسلو قبل 30
عاماً بلغ عدد المستوطنين في الضفة الغربية حينها 110 آلاف مستوطن فقط، لكن اليوم
وفي آخر إحصائية صدرت في شهر مايو/أيار من العام الحالي وصلت أعدادهم إلى 506 آلاف
مستوطن. ويضيف: أما في داخل مدينة القدس فقد كان عدد المستوطنين عشية أوسلو 115
ألف مستوطن، في حين تصل أعدادهم اليوم إلى 230 ألف مستوطن يقطنون الآن في المستوطنات
التي أقيمت على أراضي المواطنين الفلسطينيين في القدس المحتلة.
وتشير إحصائيات هيئة مقاومة الجدار والاستيطان إلى
بناء 27 مستعمرة وحياً استيطانياً استعمارياً منذ أوسلو، ليصل عددها اليوم إلى 176
مستعمرة.
الانتعاش لا يقتصر فقط على أعداد المستعمرات والمستعمرين،
بل في نمط حياتهم أيضاً، فبعد أن كانوا يتنقلون في مركبات مصفحة يحرسها الجيش،
باتوا يقتلون ويحرقون ويعتدون على المواطنين الفلسطينيين وممتلكاتهم في القرى
والبلدات.
ولم يعد مستغرباً في عهد الرئيس محمود عباس أن ترى
مستوطنين يمارسون الرياضة في الشوارع الرئيسية بين المدن، ويتنقلون بكل سهولة،
ويقفون على الشوارع وهم يتصفحون هواتفهم الذكية، إلى أن بدأت حالة المقاومة
بالصعود في العامين الماضيين واستهدفتهم بشكل مباشر، ما أدى إلى تقليص حركتهم
نوعاً ما. وبات المستوطنون يمرون في شارع حوارة الرئيسي جنوب نابلس، حيث يقود
مستوطن المركبة والمقعد الذي بجانبه فارغ، وبقية أفراد عائلته أو أصدقائه في
المقعد الخلفي وهم بوضعية الاستعداد لإطلاق النار، وذلك بعد سلسلة عمليات إطلاق
نار استهدفتهم أدت لمقتل أربعة مستوطنين على الأقل في الشارع منذ بداية العام
الحالي.
ولعل واقع الاستيطان المستشري يذكّر بما كتبه عباس
الذي وقّع اتفاقية أوسلو، في كتابه "طريق أوسلو"، حيث قال: "على
طائرة جلالة الملك الحسن الثاني الخاصة، والتي وضعها تحت تصرف القيادة الفلسطينية،
غادر وفدنا تونس يوم الأحد 12/9/1993، إلى واشنطن. ولمدة عشر ساعات ونصف، كنت أخلو
في معظمها إلى نفسي لأراجع ما قمنا به على مدة ثلاثين عاماً من النضال وحوالي نصف
قرن من الضياع واللجوء خارج الوطن، هل هي رحلة العودة إلى الوطن؟ أم هي رحلة
التوقيع على التنازل عن جزء كبير من الوطن؟ لماذا أذهب للتوقيع على اتفاق لست
جزءاً منه، وقد لا يكون فيه بيت أو مقر إقامة؟ وهل ما سنقوم به سيفتح الباب أمام
المستقبل أم يقل [يقفل] الطريق إليه؟ وهل فرطنا بحقوق الشعب أم حافظنا على هذه
الحقوق؟".
لعل عباس يستطيع أن يجيب اليوم عن هذا السؤال بعد
زيارته النادرة لمدينة جنين يوم 12 يوليو/تموز الماضي عبر طائرته الخاصة من رام
الله، ومرّ بطريقه الواصل فقط من رام الله إلى جنين بـ16 مستوطنة وبؤرة استيطانية
يسكن فيها آلاف المستوطنين.