العدد 1687 /29-10-2025

 

علاء الحلو

رغم إعلان وقف إطلاق النار في غزة منذ العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، ودخول المرحلة الأولى من الانسحاب الإسرائيلي إلى ما يعرف بـ"الخط الأصفر"، إلا أن سياسة نسف المنازل ما زالت تتواصل بوتيرة متقطعة في المناطق الواقعة خارج هذا الخط، في مشهد يثير القلق والهلع ويُعيد لأذهان الفلسطينيين أجواء الحرب التي يفترض أنها توقفت. هذه الانفجارات التي يسمعها الأهالي بشكل متكرر خلال ساعات الليل، خصوصاً في المناطق الشرقية والشمالية من القطاع، والتي تبررها قوات الاحتلال بذريعة "تطهير المنطقة" أو "إزالة المباني القريبة من الحدود لأسباب أمنية"، باتت تشكل وجهاً آخر لاستمرار الحرب بصورة غير معلنة. ويومياً تشهد مناطق في شرق غزة، وشمال القطاع، وشرق مدينتي خانيونس ورفح، تفجيرات ونسفاً لمنازل وبنية تحتية من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي. ورغم غياب الاشتباكات المباشرة أو الغارات الجوية المكثفة، فإن استمرار تفجير المنازل يخلق شعوراً عاماً بأن الهدوء هش، وأن الاحتلال ما زال يستخدم القوة لتثبيت واقع ميداني جديد على الأرض، وتسببت هذه السياسة من الناحية الإنسانية في تعميق معاناة الأهالي الذين حرموا من العودة إلى بيوتهم أو إعادة إعمارها.

أهالي غزة وعمليات النسف

الفلسطينية رحمة سعد الله (42 عاماً)، النازحة من حي الشجاعية، شرقي مدينة غزة، تشعر بأن قلبها ينخلع مع كل صوت انفجار، وتزيد قناعتها بأنها لن تتمكن من العودة إلى بيتها الواقع بالقرب من "الخط الشرقي"، الذي يشهد كثافة في عمليات النسف التي تهدد كل المناطق السكنية الشرقية. وتقول سعد الله في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إنها ومنذ إعلان وقف إطلاق النار في العاشر من أكتوبر الحالي، تعيش على أمل أن تنتهي هذه الكوابيس، "لكن كل ليلة نسمع انفجارات قريبة وبعيدة، يقولون إنها بيوت تنسف خارج الخط الأصفر الذي تقع خلفه بيوتنا وركام مناطقنا التي ما زلنا نحرم من العودة إليها". تضيف سعد الله وهي تنظر نحو أبنائها: "الهدوء لا يقاس بالتصريحات، بل بالصمت الذي نحتاجه لنستعيد أنفاسنا، الأطفال يستيقظون فزعين، وأنا لا أستطيع طمأنتهم، كيف أشرح لهم أن الحرب انتهت وهم يسمعون دوي الانفجارات كل ليلة؟".

من ناحيتها، توضح الفلسطينية ليلى أبو شعبان، وهي معلمة حكومية لكنها لا تعمل في الوقت الحالي، أنها كانت تظن أن وقف إطلاق النار سيمنح أسرتها ليالي هادئة، لكن هذا لم يحصل، إذ لا تمر ليلة من دون سماع أصوات انفجارات شديدة تعيد إلى ذاكرتها أيام القصف. وتقول لـ"العربي الجديد"، إنها تجمع بعض الأطفال القريبين لتدريسهم بعد انقطاعهم عن التعليم الوجاهي (الحضوري)، وتستمع إلى أحاديثهم ومخاوفهم من أصوات الانفجارات التي يستغربها الأطفال لاعتقادهم بأن الحرب انتهت كما أبلغهم ذووهم. تتابع أبو شعبان: "هذه الأصوات تحافظ على الخوف حياً في قلوب الناس، ما الجدوى من اتفاق إذا كنا لا نستطيع النوم بسلام، ولا نتمكن من الحصول على قسط من الراحة والهدوء بعد أشهر الحرب الطويلة والقاسية".

أما الثلاثيني سامر عمر، وهو سائق أجرة من مخيم الشاطئ، فيلفت في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إلى أن الانفجارات المتواصلة والتي تشتد حدتها خلال ساعات الليل ما زالت تخلق حالة من الرعب والبلبلة لدى الفلسطينيين، كما أنها تعيق حركة الناس ليلاً لاعتقادهم بأن الأوضاع ما زالت متوترة وغير مستقرة. ويبيّن أنه مع كل انفجار يظن الناس أن الحرب عادت، بعض الزبائن يلغون مشاويرهم خوفاً من الأصوات القوية، على الرغم من معرفتهم بأنها "عمليات هندسية لتدمير بيوت قريبة من الحدود" وفق ادعاءات الاحتلال "لكن الصوت واحد، والخوف واحد". ثم يضيف عمر: "هذه الانفجارات تشعر الناس بأن اتفاق وقف إطلاق النار صار هشاً، لأن الصوت يذكرهم بأن كل شيء يمكن أن ينفجر من جديد... طالما هناك دمار لا يمكن أن نسمي ما نعيشه وقفاً لإطلاق النار".

"أرضي قريبة من الحدود، وأراهم ينسفون البيوت بشكل انتقامي لا يتوقف، كل انفجار يجعلنا نعتقد أن الحرب بدأت من جديد"، يقول الفلسطيني سمير العسلي، ويتابع في حديثٍ لـ"العربي الجديد": "لا يمكنني تفسير هذه الأصوات لطفلتي جنى (ستة أعوام)، وهي تسألني عن سببها رغم توقف الحرب كما أخبرتها". ويضيف العسلي: "يقولون إن الانسحاب تم حتى الخط الأصفر، لكنهم ما زالوا هناك، وما زالت أصواتهم تلاحقنا، ولا يزال القلق مسيطراً، هذه الحرب كانت قاسية، نتمنى تنفيذ مراحل خطة (الرئيس الأميركي دونالد) ترامب، وأن تعود الحياة إلى طبيعتها قريباً". وترسل أصوات الانفجارات رسالة قاسية مفادها أن وقف إطلاق النار لا يعني وقف التدمير، بل مجرد انتقال الحرب إلى شكل آخر أقل صخباً لكنه لا يقل وطأة. وبالنسبة للغزيين، فإن استمرار هذه التفجيرات الليلية يعكس أن الاحتلال لم يغادر فعلاً، بل أعاد تموضعه خلف الخط الأصفر ليواصل فرض معادلاته بالقوة.

محاولة الاحتلال فرض واقع جديد

في غضون ذلك، يرى المحلل السياسي شرحبيل الغريب أن عمليات النسف المتواصلة تمثل مؤشراً واضحاً إلى أن الاحتلال الإسرائيلي فرض واقعاً جديداً في غزة يفيد بأن الأوضاع لن تعود كسابق عهدها، وهذا ما يعتبر ترجمة عملية لتصريحات نتنياهو التي قال فيها إن "إسرائيل ستحافظ على السيطرة الأمنية في غزة". ويوضح الغريب في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن الواقع الجديد الذي يسعى الاحتلال إلى فرضه ينسجم مع الرؤية الأميركية، التي تحدث عنها مسؤولون زاروا المنطقة خلال الأسبوع الماضي، وقالوا إن الإعمار سيبدأ في المنطقة ما بعد الخط الأصفر، وهو مؤشر واضح إلى أن تلك الرؤية تطبق بحذافيرها من خلال عمليات النسف تمهيداً لتجريف هذه المساحات الواسعة.

ويلفت الغريب إلى أن تداعيات تواصل هذه السياسة تعتبر "خطيرة"، حيث تفرض واقعاً جديداً، إلى جانب أنها تؤشر إلى ضياع حقوق ملكية المواطنين في بيوتهم ومناطقهم السكنية، مبيناً أن هذه السياسة نابعة من عدم رضى بعض الأطراف الإسرائيلية عن تفاصيل الاتفاق المبرم بين الاحتلال والفصائل الفلسطينية. ويقول: "الاحتلال يريد من خلال هذا السلوك القول إن الحرب لن تنتهي إلا بسحب سلاح حركة حماس وتغيير الحكم في قطاع غزة، وهو ما يدلل على وجود تيارات إسرائيلية لا ترغب بالاتفاق الذي جرى برعاية أميركية، وما زالت تدفع باتجاه رؤية احتلال قطاع غزة". ويرى الغريب أنه على الرغم من تواصل عمليات النسف، لكن هناك محاولات لضبط منع انهيار الاتفاق، إذ يضغط الجانب الأميركي الذي يدرك أن نتنياهو يسعى لافشال الاتفاق، ويقول: "حتى الآن التوصيات الأميركية واضحة لإتمام بنود الخطة التي وضعها الرئيس ترامب". ويلفت إلى أن الإدارة الأميركية نجحت حتى اللحظة في كبح جماح عودة الحرب، ولكن بحذر شديد، إلا أن الأوضاع قد تنفجر في أي لحظة في ظل التلويح الإسرائيلي المتواصل بالحق في السيطرة الأمنية، وتطبيق نموذج لبنان مرة أخرى في غزة.