العدد 1656 /19-3-2025

تشكل المصليات المؤقتة أحد مظاهر إرادة الحياة في قطاع غزة، كما تحمل رسالة دينية في بناء الهوية واستكمال الرسالة بأداء ركن الصلاة في جماعة خلال شهر رمضان بعد حرمان طويل.

لم تنجُ مساجد قطاع غزة من الاستهداف خلال عدوان الاحتلال الإسرائيلي، وتحولت بمعظمها إلى ركام، فيما بقيت بعض مآذن شاهدة على الإبادة، وعلى حرمان أهالي القطاع من صلاة الجماعة بالمساجد خلال أشهر الحرب، وحتى بعد إعلان وقف إطلاق النار.

وتعرض القطاع الديني التابع لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية في غزة لخسائر تقدر بأكثر من 500 مليون دولار، فعلى صعيد المساجد استهدفت قنابل وصواريخ الاحتلال 1109 مساجد، كلياً وجزئياً، من أصل 1244 مسجداً في قطاع غزة، بما نسبته 89% من إجمالي المساجد.

ويقول مدير دائرة العلاقات العامة والإعلام بالوزارة، إكرامي المدلل، لـ"العربي الجديد"، إن "عدد المساجد التي دمرت كلياً بلغت 834، وهذه المساجد سويت بالأرض وتحولت إلى أنقاض، فيما تضرر 275 مسجداً، ما جعلها غير صالحة للاستخدام، وأثر ذلك بشكل مباشر على أداء الصلوات. هذه الأعداد قابلة للزيادة كلما اتسعت رقعة وصول الطواقم إلى المرافق الدينية المستهدفة".

مع حلول شهر رمضان، بدأت الحياة الدينية تعود إلى غزة عبر إنشاء مُصليات "مؤقتة" في أراض وساحات مجاورة للمساجد المدمرة، لكن بمساحات أصغر لا تستوعب أعداد المصلين، خاصة في صلاتي الجمعة والتراويح، فضلاً عن تسرب المياه إلى داخلها مع هطول الأمطار.

في أكثر الاستهدافات دموية، دمر الاحتلال الصحن الداخلي للمسجد العمري الكبير بمدينة غزة، والذي يعد أحد أبرز المعالم التاريخية والحضارية بالمدينة، وثالث أكبر مساجد فلسطين، إذ يمتد على مساحة أربعة دونمات، ولم يبق منه سوى واجهته الخارجية، وجدران الصحن الداخلي بحجارتها الأثرية، والسور المحيط بالساحة الخارجية المكشوفة التي تضم أروقة أثرية، والتي أقيم بداخلها مصلى مؤقت لأداء صلاة الجماعة.

يتأمل أبو محمد حسان بصدمة من إحدى النوافذ الدمار الذي حل بالصحن الداخلي للمسجد، وهذا حال كل من يأتي أول مرة لزيارة المسجد بعد قصفه، فالقباب التي تكون سطح المسجد والتيجان الأثرية التي كانت تحملها والنقوش التي تروي مراحل تاريخية متعاقبة، رومانية وبيزنطية ومملوكية وعثمانية، كلها ركام متناثر داخل الصحن، ولم يتبق سوى نصف المئذنة.

إلى جانب المصلى المؤقت المكون من الشوادر والأخشاب، تظهر صناديق من الحجارة تعمل طواقم مختصة بالآثار على جمعها وفرزها وترقيمها، إضافة لإعادة ترتيب كلمات النقوش الأثرية على أحزمة رخامية، تمهيداً لبدء مراحل إعادة الترميم، وتبدو هذه عملية شاقة نتيجة حجم الدمار الكبير.

يقول حسان: "بمجرد دخول المسجد أصابتني الصدمة، فلم أتوقع رؤية كل هذا الدمار، وأن يصبح المسجد بلا سقف. نعتز بالمسجد العمري كونه مسجداً أثرياً، ولا يمكن تخيل أن يدمر هذا التاريخ بهذه السهولة".

ويعلق صديقه أبو البراء قزعاط على المشهد وهو يقف إلى جانب بقايا صاروخ حربي إسرائيلي بقي شاهداً على المجزرة التي لحقت بالمسجد العمري قائلاً: "هذا مشهد يدمي القلب، فمنذ صغري اعتدت على الصلاة في المسجد، وكنت أحضر مع والدي. لقد تربينا في هذا المسجد".

كانت صلاة العصر التي أداها أحمد الهنداوي يوم العاشر من رمضان، أول صلاة جماعة يؤديها منذ بداية الحرب في مصلى مؤقت بساحة مسجد أبي أيوب الأنصاري في وسط مدينة غزة، فإنشاء المصلى استغرق أسبوعاً كاملاً. يجلس في المصلى بعد مغادرة معظم المصلين، ينظر إلى ركام المسجد المدمر الذي كان مكوناً من ثلاثة طوابق، ولم يتبق منه سوى المئذنة وبقايا القبة.

وقبل الحرب، اعتاد أهالي الحي على استقبال رمضان بشكل فريد، إذ كانت حبال الزينة المضيئة تتدلى من المئذنة، وترتاد العائلات كلها المسجد الذي خصص الطابق الثاني فيه للنساء، كما تمتلئ جنباته بأعداد كبيرة من المصلين، ويؤم الناس قراء بأصوات ندية، وفي العشر الأواخر من رمضان يعتكف فيه الناس، وتنظم إدارة المسجد برنامجاً يشارك فيه أفضل قراء غزة، إضافة للدروس الدينية.

في زاوية أخرى، يجلس المُحفّظ وسام حرز في حلقات قرآنية، ويتجمع حوله أطفال صغار لقراءة القرآن، والحفظ، في أولى الجلسات القرآنية بعد انقطاع دام ستة عشر شهراً. يسترجع حرز ذكريات رمضان في المسجد قائلاً: "كنت ترى كل الناس، القريب والبعيد، وكنا نزين المسجد ابتهاجاً بالشهر الفضيل. الآن، يبقى الالتزام بالصلاة، حتى لو على سجادة في الطريق. أداء الصلاة في مصلى مؤقت رسالة ثبات، وإقبال الناس الكبير خلال صلاتي العشاء والتراويح يؤكد تمسكهم بدينهم وأرضهم، رغم أن الاحتلال حاول تدمير المساجد لإبعاد الناس عنها".

وأمام صعوبة الظروف، لم تستطع إدارة المسجد بناء المصلى المؤقت إلا قبل يوم واحد من حلول رمضان، وساعدهم تبرع جمعية خيرية بهيكل المصلى الذي أنشئ من الحديد وغطي بالشادر، فيما قام متبرع بتوفير السجاد. ورغم إحاطته من كل الجوانب بحجارة بارتفاع نصف متر تقريباً، إلا أن مياه الأمطار التي تساقطت قبل أيام تدفقت من أسفل الحجارة، وبللت أرضيته.

وعن إقبال الناس على المصليات، يصف المصري الحضور بأنه جيد، ويقول، بعدما فرغ من صلاة التراويح: "الناس مشتاقون للمساجد، لكن كان هناك صدمة بسبب كثرة الهدم، وفاجأنا تعمد الاحتلال استهداف المساجد، فنحن بشر، ولنا الحق بممارسة عبادتنا، وأن نجتمع ونؤدي الصلاة باعتبارها ركنا من أركان الإسلام الخمسة. اجتماع الناس يخفف عنهم، وفيه تسلية للقلوب وترويح عنها، خاصة أن الناس على مدار سنة ونصف السنة كانوا ينتقلون من خوف إلى خوف، ومن ألم إلى ألم. إقامة الصلوات رسالة بأننا متجذرون في هذه الأرض".

ووضح أن صعوبات بالغة واجهتهم خلال إنشاء المصلى البعيد عن مكان المسجد الأصلي بمسافة، نتيجة عدم وجود مكان مناسب، وعدم وجود هندسة كافية لإقامة مصليات، ما يجعلها مصليات بدائية. ورغم ذلك، يؤكد أن "حقيقة المسجد تكمن في الاجتماع، والرسالة التي يحملها هي الألفة والتضامن، واجتماع القلوب قبل الأجساد، وهذه حقيقة صلاة الجماعة. استهداف الأماكن التاريخية ودور العبادة فيه خرق للقوانين الدولية والإنسانية".