العدد 1428 / 16-9-2020
قطب العربي
قبل
أربعين عاما وقعت مصر أول اتفاقية سلام وتطبيع مع الكيان الصهيوني، كانت صوتا
نشازا، استهجنه كل العرب، شعوبا وحكومات، وأسسوا في مواجهته ما سمي بجبهة الصمود
والتصدي التي كان يقودها عراق صدام حسين. وبعد 15 عاما من الاتفاق المصري
الإسرائيلي وقعت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو مع إسرائيل، كان هذا
الاتفاق هو الثغرة الكبرى التي تسببت في انهيار المواقف العربية والإسلامية
المتضامنة مع القضية الفلسطينية، والتي كانت ترفض أي تفاهم مع إسرائيل، وكانت خطوة
البداية في تلك الموجة هي توقيع الأردن اتفاق وادي عربة في تشرين الأول 1994.
بالتأكيد
كانت هناك حكومات عربية وأفريقية تدور في الفلك الأمريكي وترغب في إنهاء قطيعتها
مع إسرائيل، لكنها لم تكن تستطيع مواجهة شعوبها الرافضة لذلك. وقد استغلت تلك
الحكومات خطوتي منظمة التحرير والحكومة الأردنية لتبرر لنفسها ولشعوبها خطواتها
المتسارعة بعد ذلك نحو إسرائيل.
دعونا
نتذكر أن العلاقات البحرينية الإسرائيلية ليست وليدة اليوم بل تعود للعام 1994،
بزيارة وفد إسرائيلي للمنامة، تعددت من بعدها الزيارات واللقاءات لوزراء ومسؤولين
إسرائيليين مع مسؤولين بحرينيين، يتقدمهم الملك حمد بن عيسى آل خليفة. وقد دعا
وزير الخارجية البحريني إلى تأسيس منظمة إقليمية تضم العرب والإسرائيليين.
لم
تكن الخطوة البحرينية معزولة وقتها عن موجة تطبيع عربية متصاعدة مع إسرائيل عقب
اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير. فسلطنة عمان أقامت علاقات تجارية غير رسمية مع تل
أبيب في العام 1994 أيضا (وفي 2018 زار نتنياهو السلطنة والتقى السلطان الراحل
قابوس بن سعيد، لتتوالى بعد ذلك الزيارات العلنية والسرية). وبعد ذلك بعامين
(1996) أقامت قطر علاقات تجارية مع إسرائيل، وفتحت لها مكتب تمثيل تجاري في
الدوحة، قبل أن تغلقه لاحقا ردا على الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة.
في
أقصى الغرب العربي حيث تبعد موريتانيا آلاف الأميال عن الكيان الصهيوني، حرصت
حكومة ذلك البلد العربي على إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل رغم عدم وجود
أي مبرر لذلك، وكان أول اتصال رسمي بين وزيري الخارجية الموريتاني محمد ولد لكحل
والإسرائيلي شيمون بيريز في 18 حزيران 1995، وتم فتح مكتبين لرعاية المصالح في تل
أبيب ونواكشوط في تشرين الثاني 1995. وفي 28 تشرين الأول 1998، تم الإعلان في
واشنطن عن إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين موريتانيا والكيان.
الموجة
الجديدة قادتها الإمارات ودفعت فيها بعض الدول للتطبيع حتى قبل أن تعلن هي رسميا
عن ذلك، مثل السودان الذي سارع حاكمه العسكري الفريق البرهان لمقابلة نتنياهو مطلع
شباط الماضي في عنتيبي، ثم دفعت البحرين لإحياء علاقتها القديمة، ولا تزال تواصل
جهودها مع المملكة السعودية التي لن تتأخر كثيرا عن الركب وقد يلحقها شطر من
اليمن، أو شطر من ليبيا (الشطران المواليان للإمارات).
لننظر
إلى نتيجة تلك الاتفاقات للتطبيع مع العدو الصهيوني، سواء عقب الاتفاق المصري
أواخر السبعينيات، أوفي موجة منتصف التسعينيات، أو في الموجة الحالية، لنكتشف أنها
جميعا كانت محض لهاث خلف سراب السلام الذي لم يتحقق. صحيح أن مصر تمكنت عبر
اتفاقها المنفرد من استعادة سيناء وإن بسيادة منقوصة، إلا أن العداء الشعبي للكيان
الصهيوني ظل قائما بل متصاعدا في أحيان كثيرة، وقد قدم الشعب المصري ومن بعده
الشعب الأردني ثم الموريتاني نماذج رائعة في مواجهة التطبيع الذي حاولت حكومات تلك
البلدان فرضه وتمريره. خرجت المظاهرات الشعبية الرافضة، وتأسست الكيانات المناهضة،
وقررت الجمعيات العمومية للنقابات المهنية والعمالية والاتحادات الطلابية رفض
التطبيع ومساءلة من يخرق تلك القرارات، والأهم أن الصهاينة الذين يزورون عواصم
ومدن تلك الدول الثلاث لا يجرؤن حتى اليوم على الكشف عن هوياتهم بل يتسترون في
جنسيات دول أخرى، لأنهم يخافون من المصير الذين ينتظرهم لو عرفت شعوب تلك الدول
هوياتهم الحقيقية.
على
مستوى القضية الفلسطينية وباستثناء تأسيس سلطة الحكم الذاتي المحاصرة حاليا في
المقاطعة في رام الله، لم تستفد القضية الفلسطينية شيئا من هرولة العرب السابقين
واللاحقين للتطبيع، بل تضررت كثيرا، وفقدت الكثير من مصادر قوتها وأوراق ضغطها،
ورأينا الكيان الصهيوني يفاخر بعلاقاته العربية العلنية والسرية ويبشر بالمزيد
منها، دون أن يقدم ثمنا لذلك، قدم فقط صيغة السلام مقابل السلام، متجاوزا مبدأ
الأرض مقابل السلام الذي طرحه ملك السعودية الراحل عبد الله وأقرته القمة العربية
عام 2002.
بل
إننا نلمس فارقا كبيرا بين تطبيع الجولة الأولى، والتي شملت مصر ومن بعدها الأردن
ومنظمة التحرير، حيث حصلت هذه الأطراف على بعض المكاسب (رغم أننا نرفض تلك
الاتفاقات أصلا) وحصلت على مساعدات مالية أمريكية منتظمة، بينما تدفع دول الخليج
في جولة التطبيع الوضيعة الحالية مقابلا ماديا نظير تطبيع علاقتها مع إسرائيل!!
الموجة
الجديدة للتطبيع العربي مع الكيان الصهيوني تفتقد إلى أي مبررات يمكن تسويقها
للشعوب، وهي تتجاوز حالة التطبيع التقليدي إلى التحالف مع الكيان الغاصب في مواجهة
ما تعتبره دول الخليج خطرا أكبر عليها من جهة إيران. لكن المؤكد أن هذه الموجة
الجديدة ستفتر مع الوقت، حيث أن الكيان الصهيوني سيسعى لـ"حلْب" هذه
الدول، ولن يمنحها في المقابل أمنا ولا أمانا ضد إيران، بل إن هذه الدول ستعرض
أمنها لخطر حقيقي من إيران التي تدرك أن العلاقات الخليجية الإسرائيلية موجهة ضدها
بالأساس. وكما تصدت شعوب الموجتين الأولى والثانية للتطبيع ولفظته، فإن شعوب الموجة
الجديدة عليها أن تحذو الحذو ذاته احتراما لعقيدتها وعروبتها ومقدساتها. وإذا كنا
راينا إرهاصات ذلك في السودان والبحرين، فإننا ننتظر تحركات مماثلة في الإمارات
والسعودية.