العدد 1686 /22-10-2025
خلّف الهجوم
الأخير لجيش الاحتلال الإسرائيلي على مدينة غزة الواقعة شمالي القطاع المنكوب
دماراً هائلاً في عدد كبير من منازل النصف الشمالي من المدينة، الذي يمتد من شارع
الجلاء إلى الحدود الشرقية.
باتت مساحات
واسعة من مناطق شمال مدينة غزة مدمرة، ولا يرى فيها سوى ركام مئات المباني التي
سويت بالأرض، بينما لم تنجُ البيوت القليلة التي ما زالت قائمة من أضرار بليغة
تؤثر على بنيتها الإنشائية، ما يجعلها غير صالحة للسكن نتيجة تدمير أعمدتها، أو
ظهور ميل واضح في كامل المبنى، أو تقوّس الأسقف. وبدا ذلك واضحاً بعد اتفاق وقف
إطلاق النار الذي دخل حيّز التنفيذ قبل أكثر من أسبوع، الأمر الذي أتاح
للفلسطينيين النازحين العودة إلى مناطقهم التي هجّرتهم منها آلة الحرب الإسرائيلية
لتفقّد أوضاع بيوتهم فيها.
ورغم تلك
المخاطر التي تهدد الحياة في المدينة الواقعة شمالي قطاع غزة الذي استهدفه
الاحتلال الإسرائيلي بحرب مدمّرة على مدى أكثر من عامَين، منذ السابع من أكتوبر/
تشرين الأول 2023، قرر كثير من الأهالي إصلاح أجزاء من تلك المنازل المتضررة للسكن
فيها، مفضلين الحياة تحت الخطر على حياة الخيام ومراكز الإيواء، في حين يمثّل
اقتراب فصل الشتاء خطراً إضافياً على المباني غير الصالحة للسكن، إذ تزيد الأمطار
والرياح من التصدعات، كما حدث خلال فترات سابقة من الحرب، حين وثقت انهيارات
مفاجئة لمبانٍ تعرضت للقصف.
وفجّر جيش
الاحتلال خلال أشهر الحرب أكثر من 200 عربة مفخخة تحمل كل منها نحو خمسة أطنان من
المتفجرات، ما أدى إلى تدمير أبنية بالكامل، وإضعاف بنية المربعات السكنية التي
انفجرت فيها، بالإضافة إلى تكرار ضرب المنازل بالأحزمة النارية، ليقف عدد كبير من
المباني السكنية التي بنيت بالطراز الحديث على أعمدة نصفها مدمّر.
بينما كان
الفلسطيني زكي العمصي يحاول إزالة الركام من مخازن مبناهم السكني المكون من أربعة
طوابق، والواقعة في وسط شارع الجلاء الذي بات منطقة منكوبة، انهار سقف الطابق
الأول من الجهة الجنوبية، ونجا مع شقيقه وعامل كان يساعدهما بأعجوبة. يقلّب العمصي
بحسرة صور شقق المبنى قبل الحرب، وكيف أصبح حاله الآن. يكرر تفقد الطوابق العلوية
التي تظهر ميلاً واضحاً من الجهة الشمالية، ما يمثّل خطراً أيضاً على المارة
والسكان الذين يعيشون في الجوار.
يقول العمصي
لـ"العربي الجديد": "واصلنا على مدار ثلاثة أيام إزالة الردم
تمهيداً لإعادة بقية الأهل من جنوبي القطاع، ثم سمعنا فجأة صوت طقطقة من السقف،
فتوقعنا أن يكون الأمر عادياً ولا يمثّل خطراً علينا، لكن السقف انهار في أثناء
وجودنا، ونجونا بأعجوبة، إذ قام الجيران بإخراجنا بعدما علقنا بين الردم. وبعدها
ألغينا قرار العودة إلى السكن في البيت".
يضيف العمصي:
"قبل سقوط السقف، جلب والدي أحد المهندسين المعماريين، الذي أوصى بتركيب
دعمات بناء، لكن تركيبها لم يمنع السقف من الانهيار. بالإضافة إلى ميل الواجهة
الجنوبية للبناء، هناك ميل في الواجهة الغربية، وقدمت طواقم الدفاع المدني لفحص
المبنى، فوجدت أن الواجهة الشمالية هي الأمتن، لكنها طلبت منا عدم السكن في البيت
لأن أي انهيار جديد سيؤثر على كامل المبنى".
وبينما يشعل
النار لغلي القهوة، يشير العمصي إلى بعض الأهالي في المنطقة المدمرة بصورة شبه
كاملة، ويؤكد أن عدداً منهم طلب منه استئجار شقة رغم خطورة المبنى، رغم أنهم كانوا
حاضرين عند انهيار السقف. وهو ما يؤشر إلى الوضع الكارثي الذي وصل إليه أهالي
المدينة، الذين لا يكترثون للعيش في منازل تهدد حياتهم، فالمهمّ هو التخلص من حياة
الخيام التي يعدّونها أشبه بالموت البطيء.
في داخل مخزن
مجاور، كان الفلسطيني إبراهيم المجدلاوي ينصب خيمة من شوادر وأخشاب وألواح زينكو،
رغم تدمير عمودين في الجهة التي قرر السكن فيها من المبنى. يقول لـ"العربي
الجديد": "تدمير منزلنا أدى إلى تشرد عشر عائلات، وأقمت خيمة هنا، فيما
نصب إخوتي خيامهم في أراضٍ فارغة. ما حدث عقاب جماعي لا يمكن وصفه، وقد تعمد
الاحتلال تدمير نصف المدينة".
في منطقة
مجاورة، ينظّف الشاب بلال رضوان ووالده غرفتين من الطابق الأول في منزلهم شبه
المدمر، والذي لا يصلح للسكن بعد أن طاول القصف أعمدة أساسية في المبنى المكون من
ثلاثة طوابق، ما أدّى إلى تجويف واضح في الأسطح. ورغم تحذير مهندس معماري أحضرته
العائلة لتقييم وضع المبنى الواقع في محيط مدمر بالكامل، إذ تعرّض لأحزمة نارية
وتفجير عربات مفخخة عدة، يقول رضوان لـ"العربي الجديد": "لا بديل
لنا سوى السكن في هذا المنزل رغم الخطر على حياتنا، فالمدارس ومراكز الإيواء في
مدينة غزة ممتلئة حتى قبل أن يعود الأهالي من جنوبي القطاع، وقد استأجرنا أرضاً في
مدينة خانيونس (جنوب) لنعيش عليها، ولا نستطيع الاستمرار بدفع الإيجار".
ويحكي رضوان:
"في ليلة سابقة، أدى التصدع في الطابق الذي يعلو الغرفتين اللتين أصلحناهما
إلى سقوط حجارة علينا ونحن نائمون، كذلك نسمع دائماً أصوات طقطقة سقف بيت مجاور.
وهذا الصوت إشارة إلى قرب انهيار السقف. نصف عدد أعمدة البيت تقريباً دمرت بفعل
القصف، والمهندس أخبرنا أن البيت سيُزال إذ إنّه لا يصلح للسكن، ومع ذلك لن نتمكّن
من مغادرته الآن". وشرح: "لا تتوفّر أماكن فارغة في الشوارع، ومساحات
الأراضي الفارغة قلّت لأن الركام يملأ المنطقة. كذلك لا شقق للإيجار، حتى لو أن
البعض يملك المال، فلن يستطيع أحد دفع بدل الإيجار الذي تضاعف مرات عدة".
في وقت سابق،
كان المدير التنفيذي لشبكة المنظمات الأهلية في قطاع غزة أمجد الشوا قد أفاد بأن
نسبة الدمار في مدينة غزة تتجاوز 85% من البنية التحتية والمباني، وأن كل الأحياء
تعرضت للتدمير، ما يعني أن أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني فقدوا منازلهم.
بدوره، عاد
الفلسطيني الستيني نصر عبد العال للسكن في بيته بمدينة غزة على الرغم من أن أربعة
أعمدة في الجهة التي أصلحها مدمرة، ما يمثّل خطورة كبيرة مع إمكانية ميل العمارة
بالكامل، الأمر الذي جعل زوجات أولاده يرفضن العودة إلى البيت الذي أدى القصف
وتفجير العربات المفخخة إلى تفريغ كل جدرانه. رغم ذلك، يواصل عبد العال بمساعدة
ابنه إغلاق الجدران المفتوحة بالشوادر وإزالة الركام من الداخل، وتساعدهما في ذلك
زوجته وعدد من الأحفاد.
وعن سبب التمسك
بالعيش في منزل يمثّل خطراً على حياة من فيه، يقول عبد العال لـ"العربي
الجديد": "نريد مكاناً يؤوينا أولاً، كذلك أريد أن أحتفظ ببعض ذكرياتي
هنا، التي تعود إلى سنوات طويلة. أنا عملت طيلة حياتي في قطاع البناء، وبنيت هذا
البيت بعد تعب السنين. المبنى بدأ بالميل من الجهة الغربية، كما أن الركام يعيق
الصعود إلى الطابق الأول منه، ما أدى إلى سقوط زوجتي في أثناء محاولتها الصعود".
لا ينكر الرجل
الذي يملك خبرة في قطاع الإنشاءات الخطر المحدق، لكن انعدام البدائل يجعل السكن في
هذا البيت الخيار الوحيد أمامه، فيما البديل هو نصب خيمة في جواره. يضيف عبد
العال: "أتواصل مع مهندسين لتقييم حجم الخطر، وقررنا السكن في الجهة الشرقية
مؤقتاً، ولا أدري بعد حجم تأثير تدمير أربعة أعمدة في تلك الجهة على المبنى، لكن
وضع الطابق الذي نعيش فيه أشبه بالجلوس على الهواء"، على حد وصفه.
وفي مبنى آخر
مكوّن من سبعة طوابق قصف الاحتلال واجهته الشرقية مع بيت الدرج، حُرم سكان الواجهة
الغربية من إمكانية الصعود إلى طوابقهم، لكن ذلك لم يمنع أحدهم، أبو أحمد، من
إقامة سلم من الأخشاب للصعود إلى شقته الواقعة في الطابق الأول، وإغلاق كل الجدران
المدمرة بالشوادر. يقول لـ"العربي الجديد": "باتت هذه الشقة
الوحيدة المسكونة في المنطقة المدمرة بصورة شبه كاملة، على الرغم من تدلي أعمدة
وتدمير بيت الدرج، ما قد يعرضني وأطفالي للخطر عند سقوط أي شيء من الأعلى".
في بيت مجاور
مكون من طابقين، يظهر الطابق الأول محترقاً بالكامل، فيما تصدّع الطابق الثاني،
ويظهر ميل واضح في البناء. ومع ذلك، يسكنه نحو 80 فرداً من عائلة اليازجي لعدم
توفّر بدائل أخرى. يقول محمد اليازجي لـ"العربي الجديد": "عند وصول
قوات الاحتلال إلى المنطقة، أحرقت الطابق الأرضي من البيت، واستمر الحريق على مدى
يومين كاملين، ما حوله إلى بقعة سوداء، ودمرت النيران الأعمدة والجدران، ما أثر
على متانة المبنى".
يضيف اليازجي:
"نعيش أسفل سقف يتساقط الرمل منه بصورة متواصلة، كونه مشيداً من حجارة بناء
قديمة، ونحن مضطرون إلى هذا رغم المخاطر، لأننا لا نستطيع استئجار بيوت. فالأوضاع
المادية سيئة، ويعيش معي في البيت أبي وإخوتي وأختي المتزوجة وابن عمي وابن خالتي،
وجميعنا ظروفنا المعيشية صعبة".