العدد 1684 /8-10-2025

أحمد أبو قمر

يعيش الاقتصاد الفلسطينيّ في قطاع غزة واحدة من أسوأ مراحله التاريخية بعد مرور عامين على حرب الإبادة، إذ انهارت القطاعات الإنتاجية والخدمية تحت وطأة التدمير الواسع والحصار المشدّد. وتجاوزت الأضرار الإجمالية عشرات المليارات من الدولارات، فيما تراجعت مساهمة غزة في الناتج المحلي الفلسطيني إلى مستويات هامشية، مع تسجيل معدلات بطالة وفقر غير مسبوقة.

وتعرض القطاع الصناعي الذي كان يشكل قبل الحرب نحو 20% من الناتج المحلي لانهيار ممنهج بفعل استهداف البنية التحتية وتعطيل سلاسل الإمداد لتنخفض مساهمته إلى أقل من 2% بعد عامين، أما القطاع الزراعي الذي كان يحقق اكتفاءً ذاتياً ويغطي حاجة السكان فقد دُمِّر بنسبة تفوق 95%، لتتراجع القدرة الإنتاجية إلى مستويات هامشية وتبرز أزمة غذائية حادة، وفي الوقت نفسه أصيب القطاع التجاري بالشلل مع توقف نحو 97% من مؤسسات القطاع الخاص، وخسارة أكثر من مئة ألف وظيفة، وفق بيانات حكومية.

كما واجه القطاع المالي والخدماتي أزمة غير مسبوقة نتيجة شح السيولة النقدية وتوقف المصارف، ما أفسح المجال أمام السوق السوداء لتتحكم في الدورة المالية وترفع الأسعار إلى مستويات خيالية.

ومع تراجع النشاط الخدمي بأكثر من 70% وفقدان مئات آلاف الوظائف، وجد سكان غزة أنفسهم أمام أزمة معيشية خانقة، تجمع بين غياب الدخل وانهيار الخدمات وانعدام الأمن الغذائي، في ظل غياب أي أفق اقتصادي ما لم يجرِ وقف الحرب وفتح المعابر أمام المواد الخام والدعم الدولي.

الصناعة

على مدى عامين من الحرب، تكبّد القطاع الصناعي في غزة خسائر غير مسبوقة، نتيجة التدمير الواسع للبنية التحتية وتوقف كامل للأنشطة الإنتاجية مع استمرار إغلاق المعابر، ووفق تقرير مشترك للبنك الدولي والأمم المتحدة بعنوان "التقييم السريع للأضرار والاحتياجات – قطاع غزة 2024"، بلغت خسائر قطاعي التجارة والصناعة نحو 5.9 مليارات دولار من أصل أضرار إجمالية تجاوزت 29.9 مليار دولار حتى منتصف 2024.

وقال المختص في الشأن الاقتصادي، محمد بربخ، إنّ القطاع الصناعي في غزة يظهر انهياراً ممنهجاً فرضته الحرب وليس مجرد نكسة مؤقتة: "قبل الحرب كان للقطاع الصناعي حصة تقارب 20% من الناتج المحلي، لتهبط إلى 7% في الشهور الأولى للحرب، ونسبة لا تزيد عن 1.5% بعد عامين من الحرب".

وأضاف بربخ في حديث لـ"العربي الجديد": "آلية الضرر ليست في الهدم المباشر للمصانع فحسب، بل في تعطيل سلسلة الإمداد وسحب رأس المال البشري والتقني، موضحاً أن استعادة القدرات الصناعية تتطلب خطة ثلاثية مأخوذة بعين الاعتبار، تتمثل في إعادة تأهيل فوري للبنى التحتية الأساسية وفتح معابر منتظمة لسلاسل الإمداد، وحزمة تمويلية طارئة لاستبدال رأس المال المدمر ومنح لتعويض الخسائر الأولية، بجانب برامج لحماية السوق المحليّة من انهيار تام عبر دعم مؤقت للأسعار والتحفيز على الصادرات عندما تسمح الظروف".

الزراعة

كان القطاع الزراعي من أكثر القطاعات التي تضرّرت خلال الحرب على غزة، في وقت انتهجت فيه سلطات الاحتلال سياسة ممنهجة للقضاء على السلة الغذائية وتجويع الغزيين عبر تجريف وحرق وقصف الأراضي الزراعية.

وأظهرت بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن قيمة الإنتاج الزراعي في غزة بلغت عام 2022 نحو 575 مليون دولار، توزعت بنسبة 54% للإنتاج النباتي و46% للإنتاج الحيواني، فيما شكّل القطاع الزراعي حوالى 11% من الناتج المحلي وساهم بتوظيف 6.7% من القوى العاملة.

وتشهد الأراضي الزراعية في قطاع غزة دماراً متسارعاً بعد عامين من بدء الحرب، ما أوقف أغلبية الإنتاج الزراعي في القطاع، في وقت لا تتوقف فيه الآثار عند حدود المساحة الزراعية، إذ أدى القصف والحرق المباشر للتربة إلى تغييرات كيميائية وبيولوجية تجعلها غير صالحة للزراعة لفترات طويلة.

ويذكر أن القطاع الزراعي في غزة كان يحقق قبل الحرب اكتفاءً ذاتياً من الخضراوات بنسبة 115%، ما سمح بتصدير كميات منتظمة للأسواق الخارجية، بينما تراجعت القدرة الإنتاجية اليوم إلى أقل من 5% فقط، تتركز في مناطق "المحرّرات" بمدينتَي خانيونس ودير البلح.

بدوره، أكد المتحدث باسم وزارة الزراعة في غزة، محمد أبو عودة، أن أكثر من 95% من الأراضي الزراعية في قطاع غزة خرجت عن الخدمة بعد عامين من الحرب، بسبب التدمير والتجريف والحرق وصعوبة الوصول، وهو ما خلق فجوة إنتاج حادة أدت إلى رفع أسعار الخضروات بأكثر من عشرة أضعاف.

وقال أبو عودة في حديث لـ"العربي الجديد" إن هذا الارتفاع في الأسعار زاد من حدة معاناة السكان الذين يواجهون نقصاً حاداً في المواد الغذائية مع استمرار إغلاق المعابر، ما يضع القطاع أمام أزمة أمن غذائي غير مسبوقة.

وأوضح أن الخسائر اليومية للقطاع الزراعي تتجاوز مليون دولار، فيما قدرت الأضرار الإجمالية بأكثر من 650 مليون دولار حتى الآن، لافتاً إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج من أسمدة وأدوية وبذور، وهو ما ضاعف الأسعار وزاد من صعوبة زراعة الأراضي.

القطاع المصرفي

تشهد غزة أزمة مصرفية خانقة تتجلى في شح السيولة النقدية وتفشي السوق السوداء، ما عمّق معاناة السكان، وكذلك توقف عمل البنوك، ما دفع المواطنين للاعتماد على وسطاء "التكييش"، الذين يقتطعون عمولات تصل إلى 40% من قيمة الحوالات، الذي جعل النقد سلعة نادرة تباع بأقل من قيمتها.

وخلق هذا الوضع تضخماً غير مسبوق انعكس في أسعار السلع الأساسية التي ارتفعت مئات المرات. ويرى المختص في الشأن الاقتصادي، نسيم أبو جامع، أن ما يجري يتجاوز كونه خللاً نقدياً إلى كونه حرباً اقتصادية ممنهجة تهدف لتجفيف السيولة وإرهاق المجتمع مالياً.

وقال أبو جامع في حديث لـ"العربي الجديد" إنّ إسرائيل تنفذ سياسة سحب تدريجي للعملة عبر وكلاء محليين، بما ينسجم مع استراتيجيتها لإضعاف النظام النقدي، مشيراً إلى أن غياب الدور الرسمي لسلطة النقد الفلسطينية وتوقف المصارف خلق فراغاً خطيراً استغلته السوق السوداء، إذ يفرض التجار والوسطاء أسعاراً مجحفة مقابل توفير السيولة.

وأوضح أن هذا الواقع أسهم في حدوث تشوه اقتصادي انعكس في تضخم غير مسبوق وارتفاع جنوني لأسعار السلع الأساسية، مشدداً على أن معالجة الأزمة تتطلب إعادة ضخ السيولة للأسواق وتشغيل البنوك تدريجياً، إلى جانب تدخل دولي يضغط على الاحتلال لوقف سياسة التجفيف النقدي.

ودعا أبو جامع إلى ضبط السوق السوداء ومنع استغلال المواطنين، باعتبار أن استقرار غزة الاقتصادي مرهون بضمان دورة نقدية طبيعية ومستدامة.

التجارة

كذلك يواجه القطاع التجاري في غزة واحدة من أعقد أزماته بعد عامين من الحرب، إذ تحول من ركيزة أساسية في الاقتصاد الفلسطيني إلى قطاع مشلول يكاد يفقد دوره بالكامل، فقد أدى الحصار وإغلاق المعابر ومنع إدخال الوقود والمواد الخام إلى شلل تام في دورة الإنتاج والتجارة.

ولم تنجح الشاحنات الغذائية المحدودة التي يسمح الاحتلال بدخولها في التخفيف من حدة الأزمة، كونها لا تلبي سوى جزء ضئيل من احتياجات السكان.

وقال رئيس الغرفة التجارية في قطاع غزة، عائد أبو رمضان، إنّ الوضع التجاري في غزة بعد عامين من الحرب يعتبر الأسوأ، رغم سماح سلطات الاحتلال بإدخال بضع شاحنات من المواد الغذائية التي لا تكفي حاجة السكان دون دخول أي مواد خام.

وأوضح أبو رمضان في حديث لـ"العربي الجديد" أن مساهمة غزة في الناتج المحلي الفلسطيني انخفضت إلى 3% فقط، مع ارتفاع كبير في معدلات البطالة والفقر، مؤكداً أن توقف الإنتاجية المحلية شبه كامل، إذ إن 97% من مؤسسات القطاع الخاص متوقفة كلياً عن العمل.

وأشار إلى أن خسائر القطاعَين التجاري والصناعي زادت على ثمانية مليارات دولار، بعد تضرّر 88% من المنشآت خلال عامين من الحرب، فضلاً عن فقدان أكثر من 100 ألف وظيفة من أصل 116 ألف في هذين القطاعين، لافتاً إلى أنّ منع الوقود على وجه الخصوص حال دون تمكّن الكثير من المصانع والمؤسّسات التجارية من الاستمرار.

الخدمات

وكذلك، لحقت أضرار جسيمة بالقطاع الخدماتي في غزة خلال العامَين الماضيَين من الحرب، إذ كان هذا القطاع قبل أكتوبر/تشرين الأول 2023 يشكل ركناً أساسياً في اقتصاد غزة المحاضر، وبينما كان يغطي نسبة كبيرة من الناتج المحلي ويوفر وظائف لجزء كبير من القوى العاملة، فإنّ الحرب ضربت هذا التوازن.

ففي 2022 مثلاً، كان القطاع الخدمي يشكل حوالى 54.9% من الناتج المحلي، ويستوعب نحو 51.6% من قوة العمل، أي ما يقارب 147 ألف عامل من أصل 285 ألفاً.

لكن الحرب أدت إلى تراجع حاد في النشاط الخدمي حتى وصل الانخفاض في بعض الفترات إلى نحو 76% مقارنة بفترات ما قبل التصعيد، وقد فقد الاقتصاد الغزي عشرات الآلاف من الوظائف في هذا القطاع بحيث بات عدد العاملين المتبقين فيه لا يتجاوز 50 ألفاً.

ومع ذلك، ينظر إلى القطاع الخدمي باعتباره الأكثر قدرة على التعافي مقارنة بالصناعة والزراعة، لأنّه يعتمد بالدرجة الأولى على رأس المال البشري لا على المواد الخام، لكن لتحقيق هذا التعافي في الوقت الراهن يشترط وقف الحرب وفتح المعابر وضخ دعم مالي وتشغيلي من جهات محلية ودولية.