العدد 1660 /23-4-2025
محسن محمد صالح
لماذا نقض الاحتلال الإسرائيلي الهدنة؟
ثمة ثلاثة عوامل تدفع نتنياهو وحكومته المتطرفة لخرق اتفاق
الهدنة، وعدم الدخول في مرحلته الثانية، ومتابعة العدوان:
العامل الأول: محاولة فرض معادلة أمنية جديدة، واتفاق وفق
المعايير الإسرائيلية، بعد الفشل في تحقيق أهداف الحرب المعلنة في سحق حماس
والمقاومة واحتلال قطاع غزة وتحرير الأسرى الصهاينة وفرض التصور الإسرائيلي
لمستقبل القطاع وتأمين المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة؛ حيث تمكنت حماس من فرض
شروطها. ثمّ إن حماس والمقاومة تابعت استلام الزمام منذ اليوم الأول، ولم يعد ثمة
حاجة للإجابة عن سؤال اليوم التالي، كما نجحت بشكل قوي في عمليات تبادل الأسرى
وقدمت صورة حضارية راقية أثارت إعجاب العالم، كما أثارت غيظ الاحتلال الإسرائيلي.
وقد تسبّب هذا في شعور نتنياهو وحكومته بغُصَّة شديدة، مع
توفّر إمكانات عسكرية هائلة للاحتلال الإسرائيلي، وقدرة كبيرة على ممارسة الابتزاز
السياسي والاقتصادي والعسكري على قطاع غزة، من خلال إحكام الحصار ومنع دخول
الاحتياجات الأساسية للقطاع، ومتابعة العدوان العسكري والاغتيالات. ولأن من طبيعة
الاحتلال نقض العهد والسلوك المتعجرف، فقد أراد أن يجرّب حظّه فيما فشل فيه طوال
حرب الـ471 يوما.
العامل الثاني: مرتبط بالبيئة الداخلية الإسرائيلية، حيث سعى
نتنياهو للمحافظة على تحالفه مع الصهيونية الدينية والإبقاء على سموتريتش الذي هدد
بالانسحاب من الحكومة وبالتالي إسقاطها إن دخل الاحتلال في المرحلة الثانية
للصفقة، وكذلك إعادة استجلاب بن غفير الذي كان قد انسحب من الحكومة بسبب عقد
الاتفاقية. وكان نتنياهو بحاجة لهذا التحالف لتمرير الأجندات المرتبطة بميزانية
الحكومة، وإقالة مستشارة الحكومة، وإقالة رئيس الشاباك، وتطويع المنظومة العليا
للقضاء.. وغيرها.
العامل الثالث: وجد نتنياهو في الغطاء الأمريكي الذي وفره
ترامب لنقض اتفاق الهدنة، واستئناف العدوان، فرصة لمحاولة تغيير المعادلة وفرض
حقائق جديدة على الأرض، لإجبار المقاومة على النزول للشروط الإسرائيلية. كما وجد
في البيئة العربية العاجزة والمتخاذلة، بل والمتآمرة في جزء منها، بيئة مناسبة
للعمل؛ وشجَّعتهُ كذلك حالة التخاذل لدى السلطة الفلسطينية، ورغبة قيادتها في
الحلول مكان حماس ونزع أسلحتها.
ومنذ خرق الهدنة قام الاحتلال الإسرائيلي بإحكام الحصار على
القطاع ومنع دخول احتياجاته الأساسية، وبمتابعة مجازره ضد المدنيين، وأعاد السيطرة
على محور نتساريم، واصطنع محورا جديدا جنوب خانيونس هو محور موراغ، وهجَّر أهالي
رفح، ووسع عددا من نقاط احتلاله، واغتال عددا من قيادات حماس والمقاومة، ورفع سقف
مطالبه بشأن تبادل الأسرى، وتَنَصَّل من التّعهد بإنهاء الحرب أو الانسحاب الكامل
من القطاع؛ وأعاد إثارة موضوع تهجير أبناء غزة؛ كما اشترط نزع أسلحة حماس
والمقاومة، وإخراج حماس من المشهد السياسي الفلسطيني.
السيناريوهات المحتملة:
السيناريو الأول: ضغط وتصعيد عسكري وسياسي إسرائيلي مؤقت،
بالاستفادة من الغطاء الأمريكي قصير المدى، لإنجاز ما يمكن إنجازه، ثم الاضطرار
للعودة للمفاوضات ودخول استحقاقات المرحلة الثانية والثالثة من الاتفاق.
وهذا السيناريو يفترض أن الغطاء الأمريكي محدد بأسابيع، وأن
البيئة الدولية بمن فيها حلفاء الاحتلال الإسرائيلي الأوروبيون، رفضت توفير الغطاء
لنقض الهدنة واتهمت الجانب الإسرائيلي بخرقها ومواصلة المجازر، وأن البيئة
الإسرائيلية الداخلية وفق استطلاعات الرأي تميل بنسبة 70في المئة إلى الدخول في
المرحلة الثانية، وتتهم نتنياهو بأنه يُقدِّم أجندته السياسية على المصالح العليا
للكيان. كما أن تجربة خوض المعارك والمجازر على مدى 471 يوما أثبتت عدم جدواها،
وأن ما يفعله نتنياهو يستنزف الجيش والاقتصاد الإسرائيلي.
ومن جهة أخرى، فإن المقاومة بطبيعتها المبدئية ورصيد
تجربتها، لن تتنازل عن سلاحها، وعن استقلالية القرار الفلسطيني وعدم خضوعه
للاحتلال، وستقاتل حتى النهاية لإنهاء الحرب والانسحاب الإسرائيلي وفك الحصار،
وتحقيق صفقة أسرى مُشرِّفة.
السيناريو الثاني: دخول الاحتلال الإسرائيلي في معركة
"صفرية"، أو معركة كسر عظم، بغض النظر عن مداها الزمني وتكاليفها
العسكرية والاقتصادية والسياسية، واستمرار الحرب طالما ظلت البيئة الداخلية
الإسرائيلية غير قادرة على إسقاط نتنياهو وتحالفه، وطالما استمر الغطاء الأمريكي،
وطالما استمرت البيئة العربية والدولية في حالة عجز، وغير قادرة على فرض شروطها
على الاحتلال.
وسيعمد العدو إلى رفع السقف المرتبط ببقاء الاحتلال بشكل أو
بآخر، والاحتفاظ بما يسميه "حقه" في ضرب المقاومة ورموزها متى شاء،
وبإغلاق ملف الأسرى بأقل ثمنٍ ممكن، وبتجريد حماس والمقاومة من سلاحها، وإخراج
حماس من الحياة السياسية الفلسطينية. وسيناور في ملفات التهجير والتجويع ليصل على
الأقل وفق رغباته إلى نزع أسلحة حماس، ربما بالاستعانة بضغط دولي وعربي وحتى من
سلطة رام الله، إذ إن كثيرا من الجهات
الرسمية تتقاطع مع مطالب الاحتلال بنزع سلاح المقاومة.
وهذا السيناريو يعتمد على قدرة نتنياهو وتحالفه على البقاء
في السلطة، وقدرة المؤسسة العسكرية على تحمل الاستنزاف المتواصل، وقدرة المقاومة
على الصمود في معركة تحمل في جوهرها عملية اجتثاث و"استعباد" للشعب
الفلسطيني وإغلاق لملف قضية فلسطين. وهو سيناريو لا يبدو فيه خيار للمقاومة سوى
الاستمرار حتى النهاية.
غير أن هذا السيناريو لا يحظى بدعم قوي داخلي إسرائيلي، حتى
الآن على الأقل؛ وحتى رئيس الأركان الإسرائيلي الجديد إيال زامير الذي كان متحمسا
لذلك في بداية عهده (قبل بضعة أسابيع) بدا مترددا، وتحدَّث مؤخرا عن أن سحق حماس
والمقاومة قد يأخذ أشهرا عديدة أو حتى بضع سنين.
السيناريو الثالث: استمرار الاحتلال الإسرائيلي في المماطلة،
ورفض الدخول في استحقاقات إنهاء الحرب والانسحاب الكامل من القطاع وتبادل الأسرى،
مع الإبقاء على درجة من التوتر والحصار والتجويع "الممنهج والمقنَّن"،
ومتابعة الضربات العسكرية المحدودة والاغتيالات، مع تجنب الحرب، وتقليل المساحات
المحتلة، وتخفيف نقاط الاحتكاك المباشر لتقليل الخسائر، مع الحفاظ على نقاط سيطرة
وتحكُّم؛ واستخدام ذلك في الضغط على المقاومة، وابتزازها في الوصول إلى اتفاق
تهدئة جديد.
ويبدو السيناريوهان الأول والثالث أقرب للتَّحقُّق، وفق مجمل
المعطيات الحالية المتوفرة؛ وربما يخلط نتنياهو بينهما. أما السيناريو الثاني فلا
يبدو قويا، لكنه سيحظى بفرصٍ أعلى وسيتم استحضاره إذا ما رأى نتنياهو أن لديه
مؤشرات نجاح متزايدة. غير أن قدرة حماس والمقاومة على الصمود مدعومة بالحاضنة
الشعبية، مع تزايد الضغوط العالمية لإنهاء الحرب، وانتهاء مدة صلاحية الغطاء
الأمريكي، وورقة الأسرى، وحالة الاستنزاف الإسرائيلي ستدفع نتنياهو ولو كارها
للنزول عن الشجرة، والدخول في صفقة تُرضي المقاومة، بما يصب أكثر باتجاه السيناريو
الأول، والله أعلم.
والمقاومة، كما هو معروف، ستظل صلبة في الحفاظ على الثوابت
وفي المحافظة على سلاحها، لكنها ستكون حريصة على إنهاء العدوان ورفع المعاناة عن
الشعب الفلسطيني في أسرع وقت. ولذلك، فمن المتوقع أن تدير أوراقها بطريقة مرنة في
الجوانب التكتيكية، وصولا إلى تفاهمات تخدم المصالح العليا للشعب الفلسطيني والأمة.