العدد 1642 /11-12-2024
تعيش سورية تحوّلاً
تاريخياً بنجاح شعبها في إسقاط بشار الأسد، بعد 13 عاماً من انطلاق الثورة التي
واجهها النظام بالنار والقمع، معتمداً على دعم خارجي للبقاء على الرغم من الرفض
الشعبي الكبير له. لحظة الحرية التي وصل إليها الشعب السوري، تضعه أيضاً أمام محطة
مهمة لإعادة بناء سورية ومؤسساتها، خصوصاً أن نظام الأسدين (حافظ ثم بشار) لم يعمل
منذ عام 1971 على بناء مؤسسات دولة حقيقية يمكن أن تكون أساساً لانتقال البلاد من
ضفة إلى أخرى مناقضة ومختلفة.
ولعل التحدي الأكبر الذي
سيكون أمام السوريين هو الحفاظ على سورية دولة واحدة مع تعدد القوى العسكرية التي
تسيطر على مساحة البلاد اليوم، واختلاف الولاءات والايديولوجيات لكل منها،
والمخاوف من سعي كل فريق لفرض نفوذه على الأراضي التي يسيطر عليها، إضافة إلى
المصالح الإقليمية والدولية لدول تسعى لكلمة لها في سورية. ولعلّ أبرز العوامل
التي يمكن أن تُسقط أي مشروع للتقسيم سيكون إقرار دستور جديد يضمن حقوق جميع
السوريين، ولا يفرض عليهم حزباً أو طرفاً حاكماً على حساب بقية أطياف الشعب.
لكن قبل كل ذلك يبقى
التحدي الأقرب هو ضبط الأمن والسلاح في ظل وجود أطراف عسكرية متعددة على الأرض،
فضلاً عن فلول نظام الأسد وفصائل مسلحة خارج سلطة الفصائل المعارضة، إضافة إلى
"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، كل ذلك يجعل من الأولوية ضبط هذا
السلاح ومنع تحوله إلى مشكلة مستقبلية لسورية. وبالتالي يُنتظر في اليوم التالي
لسقوط الأسد كيفية تشكيل لجان عسكرية ومدنية تدير الأوضاع، منعاً لتكرار تجارب
سابقة قادت دولاً إلى الفوضى والصراع الداخلية، كما في ليبيا واليمن وغيرهما.
بالتوازي، فإنّ انهيار
النظام المفاجئ بعدما أوصل البلاد إلى أوضاع معيشية مزرية دفعت جل الشعب السوري
إلى تحت مستوى الفقر، يضع السلطة المقبلة أمام تحدٍ آخر، وهو معالجة الأوضاع
المعيشية للسوريين بعد 13 سنة من الحرب التي استغل فيها النظام كل الموارد في حربه
وخدمة أركانه، فيما تخرج مناطق عديدة من سورية غنية بالثروات من سيطرة الحكومة
المركزية، لوقوعها خصوصاً تحت سيطرة قوات "قسد". كل ذلك وغيره، يبقى في
يد السوريين الذي يجدون أنفسهم في وضع غير مسبوق، بعد 53 عاماً من حكم النظام
الأسدي الذي جفف الحياة السياسية من أي منافسة حقيقية، ومنع حرية رأي، وأخرج عامة
الشعب من المشاركة في القرار، قبل أن يدفع سورية خلال الحرب إلى تحولها لدولة
ممزقة بين أطراف خارجية متعددة بعدما استعان بإيران وروسيا ومليشيات أخرى لإنقاذه،
لكن على الرغم من ذلك بات الشعب هو صاحب القرار حول صورة دولته المستقبلية
وتوجهاتها.
سورية بعد فرار بشار
الأسد
وهرب بشار الأسد من
البلاد، مساء السبت، مع اقتراب فصائل المعارضة من العاصمة دمشق من دون ترتيب
لانتقال سلمي للسلطة يجنّب البلاد الفوضى، بعدما رفض لسنوات كل المبادرات السياسية
لدفع الحل السياسي في البلاد ولا سيما وفق القرار الدولي 2254 وعطّل كل مسارات
الحل، بعدما راهن على أن الثورة تراجعت بعد عام 2020 واستتب له الوضع بمساعدة
روسية إيرانية. لكن يوم الثامن من ديسمبر/كانون الأول بات عيداً وطنياً "لأنه
يوم انتصار الحق والعدالة"، وفق ما أعلن الائتلاف الوطني السوري أمس، مشيراً
في بيان له إلى أن "الثورة كسرت عقوداً من الاستبداد والقمع". وأكد أنه
مستمر في عمله "من أجل إتمام انتقال السلطة إلى هيئة حكم انتقالية للوصول إلى
سورية حرة وديمقراطية". ولا شك أن لدى عموم السوريين قلقاً ومخاوف على مصير
بلادهم، وخشية من صعوبات كثيرة ربما تعترض طريقها قبل الدخول بمرحلة انتقالية
يضعون فيها دستوراً يشكل الأساس لبناء دولة تعددية ديمقراطية لا استبداد فيها، ولا
تفرد في السلطة من قبل واحد أو طائفة واحدة أو شخصاً بعينه.
وتبدو إدارة العمليات
العسكرية في فصائل المعارضة السورية بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) مدركة
لهذه المخاوف، لذا حرصت على عدم التعرض لمؤسسات الدولة في المناطق التي دخلت إليها
وآخرها العاصمة دمشق، في خطوة طمأنت السوريين ان المرحلة المقبلة لن تشهد عمليات
انتقامية وأن هيكل الدولة لن ينهدم خصوصاً المؤسسات التي لها علاقة مباشرة
بالمواطنين وتقديم الخدمات الرئيسية لهم. وكان رئيس الحكومة السورية التابعة
للنظام محمد الجلالي قد أعلن فجر الأحد: "نمد يدنا حتى إلى المعارضين الذين
مدوا يدهم وأكدوا أنهم لن يتعرضوا إلى أي إنسان ينتمي إلى هذا الوطن السوري"،
مضيفاً "هذا البلد يستطيع أن يكون دولة طبيعية، دولة تبني علاقات طيبة مع
الجوار ومع العالم، ولكن هذا الأمر متروك لأي قيادة يختارها الشعب السوري. ونحن
مستعدون للتعاون معها بحيث نقدم لهم كل التسهيلات الممكنة".
ولا ريب ان البلاد مهددة
بالدخول في مرحلة فوضى سياسية تفرضها نحو 53 سنة من حكم استبدادي احتاج السوريون
لنحو 14 عاماً لإسقاطه بالقوة على الرغم من الكلفة الغالية التي دفعوها على مدى
السنوات من قتل وتعذيب واعتقال وتهجير طاول نحو 15 مليون سوري. وحرم النظام
السوريين من ممارسة السياسة منذ عام 1963، ثم كرّس هذا التوجه الإقصائي في عام
1971 حيث منع حافظ الأسد، تشكيل أحزاب ذات ثقل مجتمعي ربما لو كانت موجودة ستكون
حوامل حقيقية للمرحلة المقبلة التي لم تتضح معالمها بعد. وبعد وصول المعارضة إلى
العاصمة دمشق وهروب بشار الأسد وأركان حكمه، يبدو القرار الدولي 2254 غير ذي أهمية
خصوصاً أنه لم تعد هناك سلطة يمكن التفاوض معها كما ينص القرار الذي رفض النظام
تطبيقه ما أوصل البلاد إلى هذه المرحلة. ولكن من المتوقع تطبيق جوهر هذا القرار
خصوصاً لجهة تشكيل هيئات تتولى المرحلة الانتقالية وتشرف على كتابة دستور جديد
للبلاد بديلاً للدستور الذي وضعه الأسد في عام 2011، مفصلاً على مقاسه، وإجراء
انتخابات نيابية على أساسه تكون البداية نحو مرحلة جديدة للبلاد. ومن المتوقع أن
تشهد الحالة الدستورية جدلاً وخلافاً سياسيين بين مختلف الفرقاء السياسيين في
البلاد، وخصوصاً لجهة تحديد هوية البلاد الدينية والعرقية.
تنافس سياسي وغموض
السلطة
ومن المتوقع ان تشهد
البلاد تنافساً سياسياً محموماً بين فريقين، الأول ذو طابع إسلامي والثاني ذو طابع
علماني لا يبدو أن له الكثير من الأوراق في الشارع السوري الذي ظل لأكثر من 60 سنة
تحت حكم حزب واحد هو "البعث" الذي كان يرفع شعارات القومية العربية وكان
الرداء الذي تتلطى خلفه الدولة الأمنية التي جففت منابع السياسة والثقافة والفكر
في البلاد على مدى ستة عقود. وتبدو المسألة الكردية من أبرز التحديات التي ستواجه
السوريين في المرحلة، حيث تطالب القوى الكردية العسكرية والسياسية بمواد في
الدستور المقبل يعترف بحقوق سياسية وثقافية للأكراد السوريين يرى البعض انها ربما
تفتح الباب امام تقسيم البلاد. ويشكل وجود "قسد" ذات الطابع الكردي
تحدياً كبيراً خصوصاً أنها مدعومة من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة وتطالب
باعتبارها جزءاً من المنظومة العسكرية للبلاد الاعتراف بها وبـ"الإدارة
الذاتية" ذراعها المدني في شمال شرقي سورية.
ورأى الباحث السياسي
محمد سالم، في حديث مع "العربي الجديد"، أن هناك "غموضاً في المشهد
السياسي السوري في الوقت الراهن خصوصاً لجهة عدم وضوح آلية انتقال السلطة من
الحكومة الحالية إلى إدارة العمليات العسكرية"، مضيفاً: التحدي الأبرز تحقيق
الانتقال بشكل سلمي. وتابع: هناك تحدٍ آخر وهو تفعيل العمل في القوانين ومبدأ
سيادة القانون والذي ربما يحتاج إلى اعلان دستوري وتغييرات قانونيه لأن دستور 2012
الحالي لا يصلح للعمل في هذه الفترة الانتقالية، والوضع يحتاج إلى ترتيبات تعلن
عنها الإدارة الجديدة بوضوح وشفافية حتى تحدث طمأنة للناس. ورأى أن هناك
"مؤشرات إيجابية من خلال الرسائل التي أعلنها الجلالي والتي طمأنت الشارع
السوري بأن السلطة تنتقل بسلاسة ولن تكون هناك فترة فوضى. وأعرب عن اعتقاده بأن
البلاد "ستمر في مخاض سياسي قد يكون عسيراً وليس سهلاً"، مضيفاً:
"لكن المهم ألا يتحول اي صراع سياسي إلى صراع عسكري. ما دام الصراع السياسي
سيبقى حبيس صناديق الاقتراع والأساليب السياسية المتعارف عليها، فلا بأس. أرى أن
المصلحة في تغليب التوافقات قدر المستطاع في هذه المرحلة الصعبة وربما الأهم في
تاريخ سورية".
ومن غير الواضح مصير
مؤسسة الجيش السوري والأجهزة الأمنية، ولكن إعادة الهيكلة من الأولويات لدى قوى
الثورة والمعارضة السورية في المرحلة المقبلة. وأقدم النظام على بعثرة أوراق الجيش
قبيل سقوطه في خطوة متعمدة لإغراق البلاد في الفوضى الأمنية. ولكن لفصائل المعارضة
القدرة والخبرة على حفظ الأمن، خصوصاً في المدن الكبرى، خلال المرحلة الانتقالية
التي ستشهد إعادة هيكلة الجيش ليكون مؤسسة وطنية خالصة، وإعادة هيكلة جهاز الشرطة
المدنية وجهاز الأمن الجنائي التابعين لوزارة الداخلية.
وعن ذلك، قال الخبير
العسكري والعميد المنشق عن قوات النظام مصطفى فرحات، في حديث إن "إعادة هيكلة
الجيش والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية وقوى الأمن الداخلي لن تكون مهمة صعبة بل
هي سهلة"، مضيفاً: "عدد المنشقين من ضباط وصف ضباط عملياً هو جيش كامل
وحقيقي". وتابع: "في عام 2013 أعددنا دراسة كاملة تتضمن خطة لإعادة
هيكلة الجيش والقوات المسلحة. كنا لجنة مؤلفة من سبعة ضباط في ذلك الوقت وأنشأنا
هيكلاً كاملاً للجيش بما فيه العقيدة العسكرية". وأضاف: "أنا شخصياً
كتبت العقيدة العسكرية لأن هذا الأمر من صلب اختصاصي العسكري. أبعدنا عن العقيدة
المقترحة تحزّب الجيش ليكون جيش وطن وليس جيش فرد أو طائفة، وتقدمنا بالخطة إلى
عدة جهات دولية بما فيها الولايات المتحدة وتحديدا الكونغرس، ولكن الظروف لم تكن
ناضجة في ذلك الوقت". وأكد ان الضباط وصف الضباط المنشقين جاهزين لسد الفراغ
الذي حدث في الجانب العسكري في سورية، مضيفاً: "لدينا خبرات وكفاءات عالية
مختصة بالتنظيم العسكري والأمر لن يكون صعباً علينا على الإطلاق".
أوضاع معيشية صعبة
ويبدو التعامل مع الحالة
الاقتصادية والمعيشية المتردية للسوريين من أبرز تحديات المرحلة المقبلة، فالنظام
السابق ترك على حافة الهاوية الاقتصادية فالرواتب لم تكن تتجاوز الـ30 دولار في ظل
تدني قيمة الشراء لليرة السورية وارتفاع الأسعار بشكل جنوني. ومن التحديات الضاغطة
هو الانقسام الحاد الذي شهده المجتمع السوري منذ عام 2011 عامودياً وافقياً ما بين
مؤيد للنظام ومعارض له، وهو ما خلق فجوة واسعة في سورية التي تضم أقليات عرقية
وطائفية ودينية طالما زعم النظام أنه الحامي لهم. ولم تشهد المناطق التي دخلتها
فصائل المعارضة السورية أي عمليات انتقام في المناطق المختلطة عرقياً وطائفياً
ودينياً، وهو ما يهدم كل المخاوف على مصير التنوع السكاني في سورية، خصوصاً أنّ
المعارضة قدمت كل التطمينات للأقليات التي تبدو اليوم منسجمة تماماً مع الحالة
الثورية الحالية حتى في الساحل السوري الذي استنزف الأسد شبابه من الطائفة العلوية
في حربه ضد السوريين.
ورأى الباحث السياسي
أحمد القربي في حديث مع "العربي الجديد" أنّ "سورية أمام تحديات
جمة لعلّ أبرزها ضبط الأمن والسلاح"، مضيفاً: "هناك تحديات ملحّة وأخرى
مؤجلة، والأولوية اليوم تحقيق الأمن في ظل وجود عدة أطراف عسكرية على الأرض، فضلاً
عن فلول النظام وفصائل خارج غرفة عمليات "ردع العدوان"، وقوات قسد. هذا
هو التحدي رقم واحد كما أرى". وتابع: "التحدي الأهم بعد ذلك آليات تشكيل
اللجنة العسكرية والمدنية التي ستقود المرحلة الانتقالية، في ظل تعدد الجهات. هذا
الأمر مربوط بوعي السوريين". ورأى أنّ السوريين "أمام استحقاق تاريخي إذا
نجحنا فيه يعبرون ببلادهم إلى مرحلة جديدة، أما إذا فشلوا ستنتقل البلاد من مرحلة
استبداد إلى مرحلة فوضى وصراعات داخلية كما حدث في بلدان عربية أخرى مثل ليبيا
والسودان واليمن. ولكن كل التعويل على وعي السوريين وإدراكهم لمصالح بلادهم".