العدد 1657 /26-3-2025

يحيى الأوس

تواجه الطائفة الدرزية في سورية تحدّيات مصيرية عديدة. إحداها خلو الساحة الدرزية من شخصية وطنية من خارج المؤسّسة الدينية، تمتلك القدرة على التأثير ولعب دور وطني من أجل امتلاك موقعٍ وازنٍ في أوساط الدروز لمواجهة انجرار الطائفة وراء زعامتها الدينية التي برز دورها في السنوات الأخيرة راعية للحراك الشعبي ضد نظام الأسد، قبل أن تنكفئ في دور وخطاب مذهبي يكاد يكون مغلقاً.

وبعيداً عن تفسير أساب هذا النكوص في خطاب المرجعية الدينية وتخندقها المذهبي الذي لا تتحمّل مسؤوليته وحدها، بل الإدارة السورية الجديدة أيضاً، يبدو الوضع الراهن في السويداء وباقي المناطق السورية التي يسكنها الدروز على صفيح ساخن، وأحوج ما يكون إلى شخصية وازنة قادرة على كسر احتكار القرار الدرزي من مشيخة العقل، أو على الأقل المشاركة فيه، بغية تصدير خطاب درزي وطني مقنع وجامع، يعيد ترتيب الولاءات إلى الوطني أولاً.

المشهد الوطني الذي صدّرته السويداء في السنتين الأخيرتين على وجه التحديد، من خلال ساحة الكرامة، يهدّده النسيان. ويواجه النشطاء المدنيون الذين حملوا على عاتقهم الهم الوطني خطر التهميش. ولكي يستمرّوا، لا بد من إعادة الاعتبار إلى شعارات (وروح) ساحة الكرامة التي كانت واحة أمل لأحرار سورية من شمالها إلى جنوبها. ويعدّ هذا تحدّياً حقيقياً في ظل تردٍّ عام في بلاد تغرق اليوم في مواجهاتٍ وانتهاكاتٍ طائفيةٍ وانتقاميةٍ كارثية، فتزيد من عزلة الدروز والأقليات بشكل عام، بل وتعمّق مخاوفهم من القادم.

ليس ظهور مرجعية درزية وطنية جامعة تحظى بالاحترام في محافظة السويداء، على غرار الزعيم الوطني اللبناني كمال جنبلاط، بالأمر المستحيل، مع وجود تيار مدني وطني عريض يفتقد حالياً الرأس، لكنه يبحث عن ممثليةٍ واعيةٍ قادرةٍ على احتضانه والتعبير عنه وعن شعاراته. ليس فقط من أجل دحض حملة التخوين الشديدة التي لم يسبق لهذه الطائفة أن واجهتها لجهة اتساعها وعلانيتها، ولكن من أجل تجنّب الانجرار إلى مزيد من الانغلاق، ومن أجل قطع الطريق على الأصوات النشاز التي خرجت في الأسابيع الأخيرة منادية بالخلاص الذاتي، أيا كان مصدره، بعد أن أفقدتها الأوضاع الراهنة وضيق سبل العيش بوصلتها.

بالتأكيد، لن تكون المشيخة الدرزية التي تسيّدت الموقف منذ سنوات في السويداء مطمئنةً لظهور أي زعامة جديدة تنازعها امتيازاتها، وتختلف معها في إدارة الأزمة. وربما ستحاول قطع الطريق عليها، وخاصة أن الفرصة مؤاتية أمام هذه المرجعية الدينية اليوم، ليس فقط لاستعادة دورها المأمول ممثلاً وحيداً لدروز سورية (الثقل البشري الأكبر للدروز في الدول الأربع، سورية ولبنان وفلسطين والأردن)، ولكن لاستعادة دورها المذهبي العابر للحدود السورية إلى الدول التي فيها أبناء الطائفة، وهو الدور الذي حُرمت منه طوال عقود من حكم البعث والأسديْن.

صحيحٌ أن استعادة الموقع الطبيعي للمرجعية الدينية لعامّة الدروز في الدول الأربع لم تكن إحدى الهواجس التي تشغل بال مشيخات العقل المتعاقبة في السويداء منذ زمن بعيد لأسباب مختلفة، بعضها سياسي وبعضها موضوعي، بفعل الفرقة الجغرافية والانتماءات الوطنية لكل طائفةٍ على حدة، لكن السنوات الأخيرة مكّنت مشيخة العقل في السويداء من تخليص نفسها من هيمنة السلطة السورية عليها، وشكّلت حضوراً قائماً بذاته منفصلاً عن وعاء السلطة الذي حُشرت فيه قسراً في السابق، بل مناوئاً ومتحدّياً لها. وهي إن استمرّت في هيمنتها على الشأن العام في السويداء سيكون من الصعب إعادتها إلى أماكن عبادتها والاكتفاء بدورها الديني التقليدي، والخطر أنها، بقصد أو بدونه، تُكَرِّس سلطة رجال الدين أمراء حرب صغاراً.

في ظل استحالة استحضار زعامةٍ على غرار الزعامة التاريخية للقائد الوطني سلطان باشا الأطرش ووفاة ابنته منتهى الأطرش التي كان يعوّل عليها لعب دور ما بحكم إرث والدها وبحكم موقفها الوطني الناصع، تبدو الزعامات المحلية الراهنة عاجزةً عن ملء الفراغ حتى اللحظة. ومن خلفها يبدو المشهد العام في السويداء أكثر ضبابيةً من قبل. وريثما يتمكّن من ينادون بعدم ترك الحبل على الغارب لرجال الدين من بلورة مرجعية جديدة ذات شأن، سوف تبقى مشيخة العقل في السويداء السلطة الأكثر نفوذاً وتحكّماً بمجريات الأمور فيها.

لا تجد المرجعية الدينية اليوم نفسها مستقلةً عن أي سلطة سياسية سابقة أو حالية وحسب، بل هي حالياً في حلٍّ من أي صيغة تمثيلية كان معمولاً بها سابقاً، الصيغة التي كانت تحتكرها الزعامة التقليدية الدرزية الجنبلاطية، ناهيك عن تجرّؤ من هم دونها بكثير عليها من أمثال وئام وهاب.

ستشهد الأيام المقبلة تكثيفاً خطيراً للهوية الدرزية لأسباب وذرائع مختلفة، وهي متواترة مع تكثيف لكل الهويات الأقلوية في سورية، سيرى بعضهم فيها ضرورة لحماية الطائفة واستمرارها، وسيرى آخرون فيها ضرورة لعدم فقدان دور الدروز التاريخي في سورية، لكن الأهم أن يتمكّن عقلاء الطائفة من وضح حدٍّ للانزياح المتواصل لهذه الهوية من الفضاء الوطني إلى الحيز الطائفي الضيق.