العدد 1684 /8-10-2025

الدكتور حسن العاصي

في غزة، لا تنتهي الحرب حين تسكت المدافع، ولا يُعلن النصر حين تُرفع الرايات، ولا يُحسب النجاة بعدد الأحياء. في غزة، الحرب ليست حدثاً طارئاً، بل زمنٌ مقيم، ينسج تفاصيل الحياة كما ينسج الموت ملامحه. حين يُقال إن الحرب قد تتوقف بعد ساعات أو أيام، لا ينهض الأمل من تحت الركام، بل يتساءل الناس: من بقي؟ من لم يُفقد؟ من لم يُكسر؟ من لم يُدفن حيًا في ذاكرته؟

في غزة، لا يُقاس البقاء بالنبض، بل بما تبقى من الإنسان في الإنسان. الأحياء ليسوا بالضرورة ناجين، فقد يكون الناجي هو من رحل قبل أن يرى أطفاله يتناثرون كأوراق الخريف، أو من لم يشهد بيته يتحول إلى غبار، أو من لم يسمع صراخ أمه وهي تُسحب من تحت الأنقاض. الناجون في غزة لا يحملون وسام الحياة، بل يحملون عبء الشهادة المؤجلة، وذاكرة لا تُشفى، ووجوهاً تبحث عن ملامحها في المرايا المكسورة.

في غزة، لا تنتهي الحرب، بل تتخذ شكلاً آخر، أكثر خفاءً، أكثر قسوةً، أكثر استنزافاً. فهل نجا أحد؟ وهل من بقي حياً يمكن أن يُسمى ناجياً؟ أم أن النجاة في غزة هي شكلٌ آخر من الموت، مؤجلٌ، متكررٌ، لا يُعلن في نشرات الأخبار، بل يُكتب في العيون، ويُحفر في القلوب، ويُروى في صمت الأمهات؟

هذه ليست مقدمة لمقال، بل نداءٌ من قلبٍ لا يعرف كيف يهدأ، من روحٍ لا تعرف كيف تنسى، من ذاكرةٍ لا تعرف كيف تتوقف عن النزيف. هذه غزة، حيث الحياة لا تشبه الحياة، وحيث الموت لا يشبه الموت، وحيث النجاة لا تشبه النجاة.

ما بعد الصمت: حين تتوقف الحرب

حين يُقال إن الحرب انتهت، لا يعلو التصفيق في غزة، بل يهبط الصمت كستار ثقيل على مدينة لم تعد تعرف كيف تُعرّف نفسها: هل هي حيّة؟ هل هي ميتة؟ أم أنها عالقة بينهما، تتنفس من تحت الركام وتختنق من فرط الذكرى؟

الصمت لا يشبه السكون، بل يشبه المقابر حين تنسى أسماء من فيها، حين تتشابه القبور وتضيع الوجوه.

في غزة، حين يُقال إن الحرب انتهت، لا يعني ذلك أن الحياة بدأت، بل أن الموت غيّر شكله، وتخفّى في التفاصيل الصغيرة: في نظرة أمٍ تبحث عن ابنها بين القوائم، في يد طفلٍ ترتجف حين يسمع صوتاً يشبه الطائرة، في رجلٍ يجلس أمام بيتٍ لم يعد بيتاً، يحاول أن يتذكر كيف كان شكل الباب، كيف كانت رائحة المطبخ، كيف كانت ضحكة زوجته قبل أن تُسكتها القذيفة.

الصمت في غزة ليس راحة، بل سؤالٌ لا جواب له: من بقي؟ ومن لم يبقَ؟ ومن بقي ليحمل وجع من لم يبقَ؟ هذا هو ما بعد الحرب في غزة: زمنٌ لا يُقاس بالساعات، بل بالندوب، لا يُكتب في التقارير، بل في العيون، لا يُعلن في نشرات الأخبار، بل في صمت الأحياء الذين لم يعودوا يعرفون إن كانوا أحياء حقاً.

الناجون: هل هم أحياء؟ أم شهود على موتهم؟

النجاة في غزة ليست انتصاراً، بل لعنة معلّقة بين السماء والأرض. تشعر أن من بقي حياً يخفض رأسه خجلًا، كأن الحياة نفسها توبّخه على نجاته. الناجون لا يتحدثون عن أنفسهم، بل عن من رحلوا، كأنهم مجرد شهود على موتٍ لم يُكتمل، على قصةٍ لم يُكتب لها خاتمة، على وجوهٍ كانت معهم ثم اختفت، تاركةً خلفها فراغاً لا يُملأ.

الناجون في غزة لا يحملون قصصاً عن النجاة، بل عن الفقد. لا يتحدثون عن كيف هربوا، بل عن من لم يستطيعوا إنقاذه. لا ينامون ليرتاحوا، بل ليهربوا من الصور التي تطاردهم. كل حيّ في غزة هو متحفٌ للموت، وكل حيّ هو شهادةٌ على أن النجاة ليست إلا شكلاً آخر من الفقد، من الانكسار، من الموت المؤجل.

الذاكرة كجبهة قتال: نحن الذين لم نُدفن بعد

في غزة، الذاكرة ليست ملاذاً، بل جبهة قتال لا تهدأ. من نجا من القصف، لم ينجُ من الصور التي تسكن رأسه، من الأصوات التي تقتحم نومه، من الروائح التي تعيده إلى لحظة الانفجار، إلى اللحظة التي تغيّر فيها كل شيء. الذاكرة في غزة ليست تذكّراً، بل استمرارٌ للحرب، حربٌ داخلية لا تُرى، لا تُسمع، لكنها تفتك بالبشر كما تفتك القذائف بالجدران.

الطفل الذي رأى أخاه يُسحب من تحت الأنقاض لا ينسى، لا يلعب، لا يضحك. كلما سمع صوتاً عالياً، اختبأ تحت الطاولة، ظنًا أن السماء ستسقط من جديد. حين يُطلب منه أن يرسم، لا يرسم شمسًا أو شجرة، بل يرسم بيتاً مهدوماً، وجسداً بلا رأس، ودماً يسيل من الجدران. هذا الطفل لا يعيش طفولته، بل يعيش ذاكرة موتٍ لم يُفهم، لكنه سكنه.

المرأة التي فقدت زوجها وابنها في لحظة واحدة، لا تبكي أمام الناس. تمشي بثبات، تتحدث بهدوء، لكنها حين تغلق باب غرفتها، تنهار. تتحدث معهم بصوتٍ خافت، كأنهم ما زالوا هناك، كأنهم يسمعونها. تضع الطعام على الطاولة، وتنتظر. لا أحد يأتي. لكنها تنتظر.

غزة التي لا تموت تبحث عن ملامحها

غزة لا تموت. ليس لأن الموت لا يطرق أبوابها، بل لأنه حين يدخل، يجد شعباً لا ينهار، بل يتشكل من جديد. غزة لا تُهزم، لأنها لا تقاتل لتنتصر، بل لتبقى. في كل مرة يُقال إنها انتهت، تنهض من تحت الركام، لا لتثبت شيئاً للعالم، بل لتقول لأطفالها: نحن هنا، نحن ما زلنا نحاول، ما زلنا نحب، ما زلنا نحلم.

في غزة، الحياة لا تأتي بسهولة، بل تُنتزع من بين أنياب القسوة. طفلٌ يرسم على جدارٍ مهدوم، لا يعرف الألوان كلها، لكنه يعرف أن الأزرق هو السماء التي لم تسقط بعد، وأن الأخضر هو شجرةٌ لم تُقتلع، وأن الأحمر هو قلبه حين يخاف.

غزة لا تموت، لأن فيها من يعلّم الموت كيف يُهزم. فيها من يبني بيتاً من حجرٍ واحد، ومن يربّي أملًا في قلبٍ مكسور، ومن يضحك رغم أن الضحك صار فعلاً مقاوماً. فيها من يكتب، من يغني، من يطبخ، من يصلّي، من يحضن، من يعلّم، من يداوي، من يدفن، ثم يعود ليحيا.

غزة لا تحتاج إلى معجزات، لأنها هي المعجزة.

الأمل في غزة لا يُقال، لأنه لا يحتاج إلى كلمات. يكفي أن ترى أماً تمشط شعر ابنتها، أو أباً يصلح دراجةً مكسورة، أو طفلاً يركض خلف طائرةٍ ورقية، لتفهم أن غزة، رغم كل شيء، لا تموت.

الختام ليس نهاية، بل بدايةٌ أخرى. غزة لا تُكتب في سطرٍ أخير، بل تُروى في كل نبض، في كل تنهيدة، في كل عينٍ تنظر إلى السماء وتقول: نحن هنا. نحن ما زلنا نحيا. نحن ما زلنا نحب. نحن ما زلنا نكتب، رغم أن الورق يحترق، والصوت يُقصف، والذاكرة تنزف.

غزة لا تموت، لأنها قررت أن تكون الحياة نفسها، ولو كانت الحياة جرحاً لا يندمل.