العدد 1666 /4-6-2025

لم تغب الدعوات المطالبة باعتماد مبدأ اللامركزية السياسية في سورية منذ إسقاط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، وهو ما تعتبره الإدارة السورية الجديدة خطوة نحو التأسيس لتقسيم البلاد إلى "كانتونات" هشة، على أسس عرقية وطائفية، وتدفع باتجاه الاحتراب الأهلي في بلاد خرجت منهكة على مختلف المستويات، من سلطة استبدادية راكمت الكثير من المظالم. وجدد قائد "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، مظلوم عبدي، في حوار تلفزيوني يوم الجمعة الماضي، مطالبته باعتماد اللامركزية السياسية في سورية، مشيراً إلى أن الأكراد "منفتحون" على الحوار مع دمشق ضمن هذا الإطار، متجنباً استخدام مصطلح الفيدرالية لأن الحديث عنه "يُقابل بحساسية من دمشق"، التي ترى في ذلك تهديداً لوحدة البلاد، رغم أن "المطلب الكردي لا يهدف إلى الانفصال"، وفق عبدي. وجاءت تصريحات عبدي، التي نشرت الجمعة، قبل يوم من توجه وفد الإدارة الذاتية في شمال شرق سورية، وهي ذراع مدنية لـ"قسد"، إلى دمشق لبدء مفاوضات مع الحكومة لحسم مصير الشمال الشرقي من سورية.

وكانت قوى سياسية كردية أقرت أواخر إبريل/نيسان الماضي وثيقة دعت إلى "سورية لا مركزية" وإلى نظام حكم برلماني "يتبنّى التعددية السياسية، والتداول السلمي للسلطة وفصل السلطات، كما يعتمد مجالس المناطق في إطار النظام اللامركزي". ولم تتأخر الرئاسة السورية في الرد على هذه المطالب، مؤكدة في بيان يومها رفضها القاطع لأي محاولات "لفرض واقع تقسيمي أو إنشاء كيانات منفصلة بمسميات الفيدرالية أو الإدارة الذاتية من دون توافق وطني شامل". وأضافت: لا يمكن لقيادة قسد أن تستأثر بالقرار في منطقة شمال شرقي سورية، إذ تتعايش مكوّنات أصيلة كالعرب والأكراد والمسيحيين وغيرهم. وأكدت أن رفضها "مصادرة قرار أي مكوّن واحتكار تمثيله أمر مرفوض"، مشيرة إلى أنه "لا استقرار ولا مستقبل من دون شراكة حقيقية وتمثيل عادل لجميع الأطراف".

طرح اللامركزية السياسية في سورية

تبدو اللامركزية السياسية في سورية صعبة التحقيق في الشمال الشرقي، فالعرب يشكلون غالبية سكانه، وجلّهم مع مركزية السلطة في الوقت الحالي، ويرفضون الدعوات لاعتماد مبدأ اللامركزية. وتخلو المناطق التي تسيطر عليها قوات "قسد" من محافظتي الرقة ودير الزور من أي حضور سكاني كردي، ما يعني عملياً أن هذه المناطق غير معنية بأي طرح سياسي كردي حول اللامركزية السياسية في سورية أو غيرها من نظم السلطة. ولا يوجد ارتباط جغرافي بين الأكراد السوريين المنتشرين في القامشلي وريفها وفي مناطق بريف حلب مثل عين العرب (كوباني)، وعفرين، فضلاً عن حضور في مدينتي حلب ودمشق.

في السياق، قال فيصل يوسف، وهو المتحدث باسم "المجلس الوطني الكردي"، المظلة السياسية الأوسع في المشهد الكردي في سورية، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "المجلس يرى أن الشكل الأمثل للدولة السورية المستقبلية هو الدولة الديمقراطية التعددية اللامركزية، القائمة على الاعتراف الدستوري بحقوق كافة المكونات القومية والدينية، وضمان حقوق الشعب الكردي كشعب أصيل في البلاد". بيد أنه أكد أن "هذا الموقف قابل للنقاش"، مشيراً إلى أن المجلس "يؤمن بالحوار". وأضاف يوسف: غير أن المبدأ الأساسي الذي لا يمكن التخلي عنه، هو رفض العودة إلى مركزية السلطة. وتابع: اللامركزية السياسية في سورية هي الضامن الحقيقي لوحدتها واستقرارها، إذ تتيح توزيع السلطة والموارد بعدالة بين مختلف المناطق، وتمكين المكونات المحلية من إدارة شؤونها ضمن إطار وطني. ورأى أن اللامركزية السياسية في سورية "تحدّ من الاستبداد، وتمنع تكرار تجربة الحكم الأمني والمركزي الذي أضر بكل السوريين"، لافتاً إلى أنه بالنسبة للأكراد، فإن اللامركزية تعني أيضاً إطاراً دستورياً يمكن من خلاله صون هويتهم القومية، ولغتهم، وحقوقهم السياسية والاجتماعية ضمن سورية موحدة.

وحول مبررات الجانب الكردي للإصرار على اللامركزية السياسية في سورية، أشار الباحث السياسي المقرب من الإدارة الذاتية إبراهيم مسلم، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن "التهميش" هو الدافع الرئيسي لهذا المطلب. وتابع: الأنظمة التي تعاقبت على السلطة في سورية، همّشت الأكراد في البلاد. وأي كردي يكون في موقع القرار لا يعمل على ضمان مصلحة الأكراد. ولم يرَ مسلم مانعاً لمشاركة الأقليات في إدارة مناطقهم من النواحي كافة، مضيفاً: اللامركزية السياسية في سورية تعني مشاركة كل مكونات المجتمع السوري في إدارة شؤون حياتهم.

ولا تقتصر المطالبة بإقرار اللامركزية السياسية في سورية على المكون الكردي، بل ظهرت أصوات لها تأثير سياسي في الطائفتين العلوية والدرزية تدعو إلى اعتماد هذا المبدأ. وكرر حكمت الهجري أبرز المرجعيات الدينية في السويداء عديد المرات المطالبة باللامركزية في هذه المحافظة ذات الغالبية الدرزية من السكان، التي تعيش اليوم تبايناً سياسياً بين مختلف تياراتها حول العلاقة مع الحكومة المركزية في دمشق.

ورأى غزلان أن المرحلة التي تمرّ بها البلاد "تتطلب التعاضد مع السلطة المركزية، وليس التأسيس للانفصال تحت ذريعة الفيدرالية أو غيرها من الطروح"، مضيفاً أن هناك ريبة في أن الفيدرالية من عموم الشعب السوري الذي يعتبرها مقدمة لتقسيم البلاد. واعتبر أنه يتعين على الجميع احترام رأي الأغلبية من السوريين والتي ترفض اللامركزية وتطالب بمناصرة الحكومة السورية لتحقيق المزيد من النجاحات السياسية والاقتصادية.

في السياق، أوضح الخبير القانوني محمد صبرا، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الفرق بين اللامركزية السياسية واللامركزية الإدارية "كبير"، لأنّ الأمر متعلق بتحديد طبيعة الدولة وشكل النظام الدستوري فيها، بين أن تكون بسيطة كالدولة المركزية أو مركّبة كتلك التي تعتمد نظام اللامركزية. وتابع: اللامركزية السياسية تعتمد على مبدأ توزيع الوظيفة السياسية، وتوزيع الوظائف الثلاث الرئيسية (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، بين الحكومة الاتحادية في العاصمة وبين الوحدات السياسية في الولايات التي تحتفظ بدستورها الخاص وتشريعاتها وبرلمانها وحكومتها، وتكون مشرفة على كل مجالات الحياة، باستثناء إقامة علاقات مع الدول وإبرام اتفاقيات، لأنها لا تمتلك الشخصية القانونية وفق القانون الدولي، أو أن يكون لديها جيش خاص بها.