العدد 1684 /8-10-2025

نائلة خليل

تأتي الذكرى الثانية للحرب الإسرائيلية على غزة في ظل الإعلان عن خطة لوقف حرب الإبادة في القطاع، غير أن أحداً لا يتحدث عن حرب أخرى لا تزال مستعرة في الضفة الغربية المحتلة، وإن بصورة مصغّرة عمّا يحدث في القطاع. فأعمال التدمير والقتل والتهجير متواصلة هناك أيضاً. لكن الجرائم الإسرائيلية الكبرى، كماً ونوعاً، في غزة طغت على المشهد العالمي، بينما تُركت الضفة بين أنياب المستوطنين وجيش الاحتلال.

حكومة الاحتلال الإسرائيلي استغلت انشغال العالم في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وما تلاه من حرب على غزة، لتنفيذ مخططات استيطانية قديمة وأخرى جديدة، فأطلقت يد المستوطنين في الضفة الغربية، وسنّت قوانين خطيرة، من بينها نقل صلاحيات الإشراف على الحرم الإبراهيمي من بلدية الخليل ووزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية إلى "المجلس الديني اليهودي". كما ضمّت فعلياً قرى فلسطينية، ودمّرت ثلاثة مخيمات تقع شمال الضفة الغربية، وهجّرت عشرات الآلاف من اللاجئين فيهم، وقتلت 1048 فلسطينياً، وفقاً لمرصد "شيرين"، الذي أطلق في 11 مايو/ أيار 2023 بالتزامن مع الذكرى الأولى لاستشهاد الصحافية شيرين أبو عاقلة.

جولة واحدة بالسيارة في الضفة الغربية كفيلة برؤية الواقع القاتم هناك، إذ ينتشر نحو 916 حاجزاً عسكرياً، بينها أكثر من 243 بوابة حديدية تُغلق لساعات طويلة وتسرق أعمار الفلسطينيين. كما تُحاصر قرى بأكملها بالأسلاك الشائكة، مثل سنجل في وسط الضفة وعزون شمالها، في مشاهد تذكّر بالمعازل التي حُشر فيها السكان الأصليون لأميركا بعد احتلال أراضيهم، فيما أصبح من المألوف رؤية مستوطن يمتطي حماراً ويرافقه قطيع ماشية، يسيطر بمفرده على مئات الدونمات من سهول الضفة دون أي حماية من جيش الاحتلال. ويرى خبراء في الاستيطان أن السابع من أكتوبر لم يكن أكثر من ذريعة لإطلاق يد المستوطنين، مؤكدين أن هذا اليوم لا يختلف عن اليوم الذي سبقه إلا في الوتيرة المتسارعة والقوة المفرطة للمستوطنين، وأن السياسة لم تتغير.

وكشف نادي الأسير الفلسطيني ومؤسسة الضمير (غير حكومية)، وهيئة شؤون الأسرى التابعة لمنظمة التحرير، في بيان مشترك، أمس الثلاثاء، أن قوات الاحتلال الإسرائيلي اعتقلت منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أكثر من 20 ألف مواطن في الضفة الغربية بما فيها مدينة القدس الشرقية. وأوضحوا أن بين الأسرى 1600 طفل، ونحو 595 سيدة بعضهن اعتُقلن من أراضي 1948، إضافة إلى نساء من قطاع غزة اعتقلن خلال وجودهن بالضفة.

طفرة استيطانية في الضفة الغربية

ويقول جمال طلب العملة، المستشار في مركز أبحاث الأراضي في الخليل، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "الطفرة الاستيطانية سلوك موجود منذ أن استلمت حكومة بنيامين نتنياهو مهامها في ديسمبر/ كانون الأول 2022، حيث بدأت منذ ذلك الوقت الطفرة وتضاعف الاستيطان والسلوك الإجرامي المرتبط به"، مؤكداً أن هذه الممارسات لم تنقطع طوال السنوات الماضية، لكنها باتت أكثر حدة وشدة واستمرارية، في محاولة لكسب الوقت خشية ألا تتكرر الفرصة لسيطرة المستوطنين على الحكومة مرة أخرى، و"بالتالي، لم يكن السادس من أكتوبر 2023 أفضل حالاً من اليوم الذي تلاه".

وبحسب العملة، فإن "حكومة نتنياهو حكومة من المجرمين، وهذه حقيقة، وهناك عدة أحكام قضائية لم تُنفذ ضد الوزير (الأمن القومي إيتمار) بن غفير، على سبيل المثال، ومن معه في الحكومة لا يقلون إجراماً عنه، وهو من الذين حرضوا على قتل رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين، علاوة على أن نتنياهو مطلوب أمام المحكمة الجنائية الدولية".

حصر التجمعات بمعازل

ويرى العملة أن "إسرائيل تريد حصر المدن والتجمعات السكانية الفلسطينية ضمن المخططات الهيكلية الفلسطينية، ومنع تجاوزها، فيما تبقي الأراضي المتبقية للمستوطنين". ويقول إن "المعازل بدأت من خلال البوابات الحديدية، حيث لم تبقَ أي بلدة أو مدينة أو حي سكني مرتبطة بشارع التفافي – أي الشوارع التي شقها المستوطنون على الأراضي الفلسطينية – إلا وأُقيمت عليه بوابة. وعلى سبيل المثال، هناك ست بوابات حديدية تعزل مخيم العروب في الخليل، وأربع بوابات على بلدة بيت أمر، وهكذا". ويوضح العملة أنه "بعد إغلاق هذه البوابات، لا يستطيع أحد التحرك من بيته، الذي أصبح أشبه بالسجن. أما بالنسبة لعزل القرى بالأسلاك الشائكة، مثل سنجل وعزون، فأعتقد أننا قد نشهد مرحلة يُستعان فيها بالمعازل الشائكة على جميع القرى المحاذية للشوارع الالتفافية التي شقها المستوطنون في الضفة الغربية لتسهيل حركتهم، وربما تسحب إسرائيل هذه التجربة على بقية التجمعات السكانية مستقبلاً".

وسبق أن استغل الاحتلال انشغال العالم بجائحة فيروس كورونا للتوسع الاستيطاني أيضاً.

وبحسب العملة، فإنه "توجد نحو 217 بؤرة رعوية بعد عام 2020، تسيطر على نحو 750 ألف دونم لصالح الاستيطان الرعوي". ويوضح أن "هذه الأراضي لم تتم مصادرتها رسمياً، ولم تُغلق أو يُعلن أنها أراضٍ عسكرية مغلقة أو أراضي دولة، ولم يتم بيعها أو تسريبها للاحتلال، أي أنها لا تخضع لأي قانون من قوانين الاحتلال الغاشمة. ومع ذلك أصبحت محميات للمستوطنين، الذين يقومون بقطع أشجار الزيتون الموجودة فيها، كما يحدث في المغير، شمال الضفة الغربية، ووادي سعير جنوبها، حيث يتم قطع آلاف أشجار الزيتون، لأنها تمثل الهوية الفلسطينية، وتقطيعها يعني محو الأثر الفلسطيني".

ويشير تقرير صادر عن منظمتَي "السلام الآن"، و"كرم نابوت" التي يتركّز عملها على رصد المشروع الاستيطانيّ في الضفة الغربية، في مارس/ آذار الماضي، وتم التحقق منه عبر تحليلات الأقمار الاصطناعية لشبكة "سي أن أن" الأميركية، إلى أن المستوطنين أقاموا 49 بؤرة جديدة غير قانونية لرعي الماشية في الضفة الغربية بين السابع من أكتوبر 2023 وديسمبر/ كانون الأول 2024، بزيادة بلغت نحو 50%.

السابع من أكتوبر ذريعةً

ويرى الخبير في شؤون الاستيطان خليل التفكجي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن إسرائيل بارعة في استخدام الذرائع في كل سياساتها، قائلاً: "عندما أصيب السفير الإسرائيلي في لندن (شلومو أرغوف) عام 1982، اتخذت إسرائيل ذلك ذريعة لاجتياح لبنان وارتكاب مجازر في مخيمَي صبرا وشاتيلا ضد الفلسطينيين". ويرى أن "السابع من أكتوبر أيضاً كان ذريعة إسرائيلية لتجاوز كل القوانين الدولية، بدءاً من حرب الإبادة والتدمير الشامل في قطاع غزة، وصولاً إلى التغول الاستيطاني في الضفة الغربية".

ويوضح التفكجي أن "ما تعيشه الضفة الغربية اليوم نتيجة لسياسات اليمين المتطرف الإسرائيلي، التي تضاعفت بشكل كبير منذ اتفاق أوسلو (1993) حتى اليوم، فعدد المستوطنين عند توقيع الاتفاق كان 110 آلاف، واليوم يوجد أكثر من 516 ألف مستوطن في الضفة الغربية و230 ألف مستوطن في القدس". وبحسب التفكجي، فإن "هذا أدى إلى أن يشكل المستوطنون دولة داخل الدولة، واليوم نشهد انتفاضة المستوطنين ضد الفلسطينيين، وأصبحت اقتحاماتهم لمئات القرى وحرقها وقتل من يقاومهم من أهلها حدثاً شبه يومي".

تدمير وتهجير المخيمات

وتستغل قوات الاحتلال الإسرائيلي أحداث السابع من أكتوبر 2023 لتنفيذ مخططها القائم على تدمير مخيمات الضفة الغربية وتهجير أهلها، ولا سيما مخيمات الشمال في طولكرم وجنين ومخيم نور شمس. ويتواصل العدوان على مخيم جنين منذ 21 يناير/ كانون الثاني من العام الحالي، ما ادى لاستشهاد 59 فلسطينياً وعشرات المعتقلين، ونزوح قرابة 22 ألفاً، بينما دمر الاحتلال 70% من مخيم جنين، الذي يعاني انهياراً كاملاً في بنيته التحتية، وتم هدم أكثر من 600 بناية تضم مئات الوحدات السكنية. وفي السياق، يتواصل عدوان الاحتلال على مدينة طولكرم ومخيماتها الواقعة شمال الضفة الغربية المحتلة، منذ 27 يناير/ كانون الثاني الماضي، حيث بدأ جيش الاحتلال اجتياح مخيم طولكرم وتهجير سكانه، وبعد أسبوعين من ذلك التاريخ، أي في التاسع من فبراير/ شباط الماضي، بدأ اجتياح مشابه لمخيم نور شمس المجاور الواقع شرق طولكرم، وتم تهجير سكانه. وتراوح تقديرات النازحين من مخيمي نور شمس وطولكرم وما حولهما من أحياء ملاصقة لهما من مدينة طولكرم بين 25 و30 ألف شخص. ودمرت قوات الاحتلال في مخيمي طولكرم ونور شمس أكثر من 600 منزل بشكل كامل، و2573 منزلاً تضررت جزئياً، في ظل استمرار إغلاق مداخل المخيمين بالسواتر، علاوة على استشهاد 14 مواطناً، وعشرات المصابين والمعتقلين، وتدمير واسع طاول البنية التحتية، والمنازل، والمحلات التجارية، والمركبات.

قوانين تكرس السيطرة

وتحت ضجيج حرب الإبادة في غزة، أقرت حكومة الاحتلال عدداً من القوانين الخطيرة التي تعني سيطرة فعلية إسرائيلية على أماكن دينية وأثرية فلسطينية. وصادقت الهيئة العامة للكنيست الإسرائيلي في 22 مايو 2024 بالقراءة التمهيدية على مشروع قانون يقضي بإدخال منطقة الخليل ضمن مجلس مستوطنات النقب. وبحسب المشروع، ستُضم الأراضي الواقعة جنوب الخط 115، وصولاً إلى مشارف النقب، في خطوة تُعدّ تمهيداً لضم فعلي واسع النطاق يبدأ من جنوب الخليل في المناطق التي يجري توسيع المستوطنات فيها داخل الجدار إلى خارجه.

واتخذت سلطات الاحتلال في 15 يوليو/ تموز الماضي، قراراً وصف بـ"الأخطر على الحرم منذ العام 1994"، يقضي بنقل صلاحيات الإشراف على الحرم الإبراهيمي في الخليل، جنوبي الضفة الغربية، من بلدية الخليل ووزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية، إلى "المجلس الديني اليهودي" التابع لمستوطنة "كريات أربع"، المقامة على أراضي شرق الخليل، ما يعني إعلان ضمّ صريح للحرم ونزع كلّ الصلاحيات الفلسطينية منه، بحيث أصبحت صلاحيات الدخول والخروج والترميم والإصلاح في الحرم للاحتلال الإسرائيلي. ويقول شديد: "الشيء ذاته بالنسبة للحرم الإبراهيمي الذي بات يتبع للسلطات الإسرائيلية، ومع إقامة بلدية للمستوطنين في الخليل عام 2021 باعتراف المحكمة العليا الإسرائيلية لتكون مسؤولة عن الخدمات والبنية التحتية في البلدة القديمة بالخليل الذي فيه الحرم، بات الأمر واضحاً بأن الضم الفعلي قد حدث لمئات من الأماكن الدينية والأثرية بما فيها البنية التحتية للمناطق التي يريدها الاحتلال".