العدد 1693 /10-12-2025
عبد الباسط سيدا
مضى عام على هروب
بشار الأسد، وسقوط سلطة آل الأسد بعد وصول قوات عملية ردع العدوان، من هيئة تحرير
الشام والفصائل المتحالفة معها إلى دمشق، ودخولها القصر الرئاسي وسط فرح شعبي سوري
غامر عارم غير مسبوق. عام كان حافلاً بالأحداث والتحرّكات واللقاءات والاجتماعات السرّية
والعلنية بين مختلف القوى الإقليمية والدولية المهتمة بالموضوع السوري، وبين ممثلي
الدول العربية والإقليمية والدولية والإدارة الجديدة في الداخل السوري، وفي عواصم
الدول المؤثرة على المستويين الإقليمي والدولي.
إجراءات كثيرة
اتخذت على صعيد رفع القيود والعقوبات عن سورية، وعن مسؤولين في الإدارة. ووعود
كثيرة أُُعطيت، ومساعدات قُدّمت، وكان الحديث في مناسباتٍ احتفالية عديدة عن
مشاريع استثمارية وشيكة. بل وقعت عقود استثمارية مبدئية، على أمل أن تبدأ مرحلة
التنفيذ الفعلي في أقرب وقت ممكن.
وعلى الضفة
الأخرى، استمرّت الهجمات الإسرائيلية التي لم تكتف باستهداف قواعد الجيش السوري
وعتاده فحسب، بل حاولت، على الدوام، تأكيد هيمنة الإرادة الإسرائيلية على السماء
والأرض السورية، بحجّة حماية الأمن الإسرائيلي، وكأن الأمن السوري المفتاحي في
الإقليم لا محلّ له من الإعراب.
وفي الداخل
السوري، كانت الحوادث المؤلمة في منطقتي الساحل والسويداء، وكانت السرديات
المتباينة، وكانت التحقيقات الرسمية التي تضاربت الروايات والانطباعات بشأنها،
ولكن المطمئن بعض الشيء اعتراف المسؤولين بجانب من الأخطاء التي كانت، رغم اعتقاد
كثيرين بأن هذه الاعترافات جاءت نتيجة الضغوط الخارجية بأشكالها المختلفة. ويستشهد
هؤلاء بسرعة وطريقة الإعلان عن الاتفاق الإطاري الذي وقّعه الرئيس أحمد الشرع
وقائد "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، مظلوم عبدي، في 10مارس/ آذار
الماضي بعد أحداث الساحل، ويستشهدون أيضاً بالاتفاق الثلاثي بخصوص السويداء الذي
جرى التوقيع عليه في عمّان.
كما كانت طريقة
تعامل الأجهزة الأمنية السورية مع المظاهرات والاحتجاجات التي شهدتها أماكن متعددة
في محافظات اللاذقية وطرطوس وحمص وحماة موضع الترحيب من غالبية السوريين خارج نطاق
التصنيفات النمطية.
أما الأوضاع
الأمنية والمعيشية والخدمية فما زالت دون الحد المقبول، رغم الوعود والتطمينات
والمبادرات؛ ولكن الملاحظ أنها بصورة عامة تتجه نسبياً نحو الأفضل. وهذا يعزّز
الأمل، يمكن البناء عليه وتطويره في حالة صدق النيات، وتوفر الإرادة، وتطبيق مبادئ
المساءلة والمحاسبة والشفافية، وسدّ المنافذ أمام الفساد، وتطبيق القانون على
الجميع من دون أي استثناء.
ولكن الأمر الذي
يثير التساؤلات والهواجس في الوقت نفسه عدم حدوث أي تقدّم نوعي ملموس على صعيد
التعامل مع الموضوع الكردي السوري، وهو موضوع وطني سوري في المقام الأول، قبل أن
يكون موضوعاً خاصاً بالكرد السوريين وحدهم، فالكرد كانوا، عبر مختلف العصور
القديمة والوسيطة والحديثة، كما في عصرنا الراهن، عنصراً أصيلاً فاعلاً في تاريخ
المنطقة وجغرافيتها ومجتمعاتها، ووجودهم، على حد تعبير علي العبدالله (العربي
الجديد 3/12/2025)، "في شمال وشرق سورية ليس طارئا أو عابراً، إنه وجود أصيل
يمتد عميقا في تاريخ المنطقة".
يتوزّع الكرد
اليوم، إلى جانب وجودهم المستدام في شمال سورية وشرقها، على كامل التراب السوري،
خصوصاً في حلب ودمشق وإدلب وحماة وحمص ومناطق الساحل، وصولاً إلى درعا والقنيطرة.
وقد خضعوا، عن سابق قصد وتصميم بموجب سياسات وخطط وممارسات تمييزية عنصرية، لظلم
مركّب مزمن، واضطهاد مزدوج متواصل، في ظل حكم "البعث" وسلطة أل الأسد
أكثر من 60 عاماً. كما تعرّض مناضلوهم نتيجة نشاطهم السلمي للاعتقال والقمع
والحرمان من الحقوق المدنية، لا سيما العمل والملكية، كما تعرضوا للكثير الكثير من
الممارسات والإجراءات والمشاريع العنصرية التي باتت معروفة لدى جميع السوريين.
وكانت للكرد وقفات بطولية، شملت جميع أماكن الوجود الكردي السوري في الوطن
والمهاجر؛ في مواجهة استبداد سلطة آل الأسد بلغت ذروتها في انتفاضة 12 مارس
(2012)، والتي جرى فيها لأول مرة على مستوى سورية كلها تحطيم صنم حافظ الأسد في
عامودا؛ كما قدّم الكرد الشهداء دفاعاً عن حقوق شعبهم ورفضاً للظلم المفروض عليه.
وشارك الكرد،
خصوصاً الشباب منهم، بفعالية في الثورة السورية عام 2011 منذ الساعات الأولى
لانطلاقتها، وقدّموا الشهداء، وفي مقدمتهم مشعل تمّو؛ وساهموا في هيئات المعارضة
السورية التي أصدرت وثائق هامة خاصة بالقضية الكردية في سورية؛ حدّدت الخطوط
العامة لكيفية مقاربة هذه القضية ومعالجتها بصورة عادلة. واليوم سيكون من المفيد
المنتج على الصعيد الوطني أن تعود الإدارة الجديدة إلى تلك الوثائق وتستفيد منها،
لصياغة تصوّرها للحل الذي تراه ممكناً لمعالجة هذا الموضوع الذي يمسّ بصورة مباشرة
ملايين السوريين في شمال سورية وشرقها، بل يهم ويشغل السوريين على كامل التراب
السوري.
أما وأن يُربط
الموضوع بحسابات تفاوضية مع "قسد"، فهذا مؤدّاه ربط الموضوع بحسابات
إقليمية، وإهمال موضوع داخلي حسّاس، بات محاطاً نتيجة الهيستريا الجماعية السائدة،
والشعبوية الانتهازية المنتشرة، وعجز بعضهم عن التحرّر من أمراض ايديولوجية
"البعث" العنصرية، والنزعات الانتهازية لدى هذا الفريق أو ذاك، هذا إلى
جانب "ثقافة الكراهية" وحزمة الانفعالات القوية التي تتنشر أصداؤها على
صفحات التواصل الاجتماعي، وعلى شاشات التلفزة في مختلف المحطات.
والجدير ذكره في
هذا السياق ما نُقل عن الرئيس الشرع في أكثر من مناسبة، جديدها أخيراً في منتدى
الدوحة 2025، ما يؤكّد علمه بمدى الظلم الذي تعرّض له الكرد، وهو يعد باستمرار
بأنه سيعالج الموضوع بإنصاف. وهو بحكم الصلاحيات التي يتمتع بها يستطيع أن يطرح
مشروعاً للحل، يكون في صالح الاستقرار المجتمعي السوري، عبر قطع الطريق على أصحاب
التجييش العلني على مختلف الجبهات؛ بل سيساهم هذا الحل حتى في الاستقرار الإقليمي،
بكسب تضامن (ودعم) الكرد في الجوار الإقليمي، وتشجيع تركيا للانفتاح على كردها
والتوافق على حل عادل للقضية الكردية هناك، ما سينعكس إيجاباً على العلاقات
المستقبلية الاستراتيجية بين تركيا وسورية، وهي العلاقات التي ستكون إلى جانب
العلاقات مع الدول العربية، خصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي، ركيزة استقرار
إقليمي يمكّن المنطقة من التعامل الموضوعي مع مختلف التحدّيات بما يضمن مصالح
الجميع.
معالجة الموضوع
الكردي ضمن إطار وحدة سورية أرضاً وشعباً سيكون مدخلاً لطمأنة السوريين من جميع
المكوّنات، وسيمكّن من تجاوز الأثار السلبية التي نجمت عما حدث في الساحل
والسويداء، وسيفتح الطريق أمام حوار وطني جاد مسؤول، هدفه التوافق على عقد وطني
جامع، يحترم التنوّع السوري، ويقرّ بالخصوصيات والحقوق، ويضبط العلاقة بين مؤسّسات
الدولة والمواطنين، بموجب القانون الذي ينبغي أن يلتزم به الجميع.
وبمناسبة
الاحتفالات بالذكرى الأولى لتتويج نضال السوريين على مدى عقود بالتخلص من طغيان
سلطة آل الأسد وفسادها، سيكون من المناسب جداً أن يتوجّه الرئيس أحمد الشرع إلى
الشعب السوري بكل مكوّناته وتوجهاته بكلمة شاملة، يتناول فيها ما جرى من أحداث،
وما تحقق من إنجازات على الصعيدين، الداخلي والخارجي؛ ويتقدّم بخريطة طريق واضحة
تطمئن جميع السوريين. فالسوريون قد ضحّوا وتحمّلوا كثيراً، وأعصاب قسم كبير منهم
ما زالت مشدودة في انتظار أحبّتهم، ومن حقهم معرفة شيء عن مصيرهم على الأقل. ومن
أبسط المطلوب، في هذا المجال، محاسبة المسؤولين عن معاناتهم بموجب محاكمات عادلة
تقطع الطريق أمام نزعات الثار، وتصاعد الهواجس، وتراكم الأحقاد.
النسيج المجتمعي
السوري الوطني اليوم ليس على ما يرام، علينا أن نعترف ونتصرّف، فهناك شروخ عميقة
بين المكونات المجتمعية، وضمن كل مكوّن. ومعالجة هذا كله تتم بالصبر والعقلانية
والتحمّل والحكمة وبعد النظر. أما النزعات الانفعالية اللاعقلانية فستؤدي إلى
الأسوأ الكارثي. وللتعامل الحريص على الحلول مع هذا الوضع، نحتاج دولة مؤسّساتية
عادلة، تشمل سيادتها كامل التراب السوري، وتجسّد تطلعات سائر مواطنيها من دون أي
استثناء أو تمييز. دولة تفتح الآفاق أمام السوريين للتحرّر من المخاوف والتوجسات؛
وتعزّز الثقة المتبادلة بينهم على مستوى الأفراد والجماعات، وعلى مستوى العلاقة
بين المواطنين والسلطة. دولة تطمئن مكوّناتها المجتمعية ومواطنيها بعقود مكتوبة
تحترم الخصوصيات وتضمن الحقوق، وتلتزم بمساواة الجميع أمام القوانين المنبثقة من
إرادة الشعب الحرّة.
لا نعتقد أن
أحداً يشكك في أهمية هذه الأمور العامة. ولكننا إذا انتقلنا إلى التفاصيل، نجد
أنفسنا أمام جملة متباينة متعارضة، وحتى متناقضة، من المواقف والتخريجات
والمقاربات؛ بموجب تعدّدية الاعتبارات والأولويات، والقدرة على الاستيعاب
والتفسير. وقد أدّى هذا في غياب الحوار الوطني بين السوريين ضمن الفضاء العام، إلى
انتشار الأحكام المسبقة المنسجمة مع النزعات الرغبوية، والآليات العصبوية التي
تتحكّم لدى كثيرين بالتفكير والتقييم، ويتم تسويق الصور النمطية التي تنم عن جهل
فاضح بحقائق التاريخ والجغرافيا، ومن دون الأخذ بالاعتبار أبسط المبادئ المطلوبة
لإدارة ناجحة لتنوع مجتمعي وطني فريد، متداخل مع الجوار الإقليمي.
إمكانات إخراج
سورية من الوضعية الصعبة التي تعيشها راهناً نتيجة عقود من ممارسات سلطة آل الأسد
المستبدّة الفاسدة المفسدة موجودة شرط الاستثمار فيها بعقلانية. كما أن مقوّمات
النهوض واعدة في مناخات التوافقات الإقليمية والدولية على مساعدة السوريين. الكرة
في ملعبنا، هل سنجيد التصرّف في لحظة مفصلية تاريخية لصالح تماسك اجتماعنا، ووحدة
بلادنا، وازدهار عمراننا؟ هذا ما نأمله، بل نريده، لأنه طريق الخلاص الأكيد.