العدد 1665 /28-5-2025
يعود يوم 25 مايو/ أيار بوصفه ذكرى حزينة لا يمكن لسكان
منطقة الحولة في ريف حمص الشمالي نسيانها، بوصفها جرحاً مفتوحاً وعهداً لم يوف به،
في وقت لا يبحث فيه أهالي الضحايا اليوم عن الرثاء، خاصة من كانوا مبعدين وعادوا
بعد سقوط النظام، بل يحاولون البحث عن المجرمين والمشاركين في المجزرة، معربين عن
ثقتهم بأن ملاحقة المجرمين خطوة على طريق تحقيق العدالة وإنصاف الضحايا.
وفي خضم هذه الذكرى الثقيلة، لا تقتصر مطالب الأهالي على التوثيق
أو التأريخ، بل تتجه أنظارهم إلى أفعال ملموسة وروايات شخصية تعيد تسليط الضوء على
فظاعة ما حدث. وسط هذه الجهود، تبرز شهادات الناجين بوصفها جزءاً جوهرياً من السعي
لتحقيق العدالة، إذ يحاول بعضهم ترجمة الألم إلى ملاحقة حقيقية للقتلة وكشف
الحقائق، كما يفعل محمد السيد، أحد أبناء تلدو، الذي عاش المأساة وفقد عائلته
خلالها.
بعد سقوط النظام مباشرة، عاد السيد إلى منزل العائلة جنوب
مدينة تلدو بمنطقة الحولة، يحمل الكثير من الذكريات المؤلمة عن بيت العائلة، الذي
قُتلت فيه والدته وأشقاؤه، لا يطلب المواساة أو الشفقة على حاله، بل يعمل جاهدًا
وهو من بين الناجين من القتل على كشف هوية المجرمين. ووفق ما أوضح لـ"العربي
الجديد"، لم يتوقف يومًا عن التفكير في الوصول إلى القتلة. ويرى السيد، خلال
حديثه لـ"العربي الجديد"، أن تحقيق العدالة بمفهوم بسيط يقوم على محاسبة
المجرمين، وقال: "هذا يعني محاسبة كل شخص مسؤول عن مأساة الشعب السوري، إن
كان سجانًا أو كان في فرع أمني، أو ثكنة عسكرية، أو في فرع الأمن السياسي، محاسبة
كل المتورطين لتحقيق العدالة". وأكد السيد أن العدالة بالنسبة لضحايا مجزرة
الحولة "تكون بإنزال أشد الأحكام" على المتهمين المدانين، وعبّر عن رفضه
"أحكام السجن المؤبد أو السجن لعشرين عامًا مثلًا"، لأنها، في اعتقاده،
"لا تحقق العدالة"، مطالبًا بـ"إعدام" من شاركوا في المجازر.
وأوضح السيد، أنه عندما عاد إلى المنطقة بعد سقوط النظام،
رجع إلى البيت الذي قُتل فيه أهله، مضيفاً: "أخذت عهداً على نفسي، أن أعمل
دون كَلال أو ملل حتى أعرف من ارتكب المجزرة الشنيعة، حتى لو كلفني الثمن حياتي.
كون الوصول إلى المعلومات أصبح أسهل، بحثت وسألت وأفعل ذلك دائمًا منذ سقوط
النظام، بكل جهد. كل الجهد الذي بذلته بدأت نتائجه تظهر، تحقق جزء مما أسعى له ويسعى
له الكثيرون. كشفنا بعض الأشخاص، وأتوا إلى موقع المجزرة ومثلوا الجريمة، وعلمنا
أن عدد المشاركين فيها يفوق 80 شخصًا".
ويوضح السيد أن السلم الأهلي لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود
عدالة انتقالية تنصف الشعب السوري المكلوم، مضيفًا: "السلم الأهلي لا يقوم
إلا على العدالة، يستحيل لشخص أن يسامح بدم ابنه. كيف يمكن لشخص أن ينسى كيف جمع
أشلاء طفله من الأرض؟ أو ينسى حقه بالعدالة بالتقادم؟ يستحيل هذا الأمر. المطلوب
والواجب هو العدالة الانتقالية لتحقيق هذا السلم الأهلي".
عباس السليمان، أحد الشهود على المجزرة، يقول لـ"العربي
الجديد"، إنه "بعد سقوط النظام، لم تعد المجزرة مجرد ذكرى لمأساة، تمضي
كما في كل عام، اليوم نحن أمام مطلب للجميع، وهو القبض على القتلة والمتورطين فيها
وكافة المجرمين. المجزرة بطبيعتها لم تكن أمرًا عابرًا أو عشوائيًّا، كانت شيئًا
مبيّتًا ومخططًا له، ونُفذت بوحشية غير طبيعية، ومن المسافة صفر".
أضاف السليمان: "الذي اقتحم بيتًا وصوّب البندقية إلى
رأس طفل وفجّر جمجمته خلال ارتكاب المجزرة، لم يقم بهذا العمل تحت الضغط، قتل
الأطفال بكامل قواه العقلية وبكل وحشية"، يردف: "من قتل عائلة بأكملها
وبدم بارد، هذا مجرم بكل المقاييس ويعي تمامًا ما يفعل. لا يمكن السماح لهؤلاء
القتلة بالفرار، أو الحكم عليهم إلا بما يرضي ذوي الضحايا". ويحتاج ذوو
الضحايا، وفق السليمان، أيضًا إلى من يساندهم ويقف معهم. أقل تقدير، من نجا من
المجزرة طفلًا وأُثقل بذكريات أشقائه أو أمه أو أقاربه، لن يسهل عليه الخلاص من
الضغوط التي يعيشها.
بدوره، أوضح عبد الرحمن أحمد، خلال حديثه لـ"العربي
الجديد"، أن المشاهد كانت مؤلمة للغاية، ولا يمكن أن ينسى الجثث الملطخة
بالدماء والتي لم يكن الأهالي قادرين على الوصول إليها إلا بعد دخول وفد من الأمم
المتحدة إلى المنطقة، وقال: "كل الألم يجب أن يتحول إلى طريق عدالة، أن يكون
هناك جهد حقيقي لملاحقة القتلة، لا أن يكونوا طلقاء، وإن كانوا متخفّين".
ووثقت "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" في تقرير
سابق لها مقتل 107 أشخاص في مجزرة الحولة بالاسم الثلاثي والصور، مؤكدة أن من بين
القتلى 49 طفلًا دون العاشرة من العمر، و32 امرأة. وفي وصفها لما جرى ذلك اليوم،
أشارت إلى أن المجزرة بدأت بقصف عشوائي طاول بلدات سهل الحولة، وتركّز على بلدة
تلدو، وهي مدخل الحولة من الجهة الغربية، والمحاطة بقرى موالية للنظام.
وقالت الشبكة إن القصف الذي استمر 14 ساعة خلف 11 شهيدًا
وعشرات الجرحى، تبعَه اقتحام عناصر قوات النظام (الجيش والأمن والمليشيات الطائفية
المحلية والأجنبية) مدعومين بعناصر من "الشبيحة" من قرى فلة والقبو،
لعدد كبير من المنازل الواقعة على أطراف تلدو. وأضافت: "اقتحامات وإعدامات
ميدانية قام بها الشبيحة وعناصر الأمن بحق كل من وجدوه ساكنًا على أطراف المدينة،
حيث تم تكبيل أيدي الأطفال، وتجميع النساء والرجال، ومن ثم ذبحهم بحراب البنادق
والسكاكين، ورميهم بالرصاص بعد ذبحهم، في أفعال تعود في وحشيتها إلى عصور الظلام
وشريعة الغاب". ويضم سهل الحولة، الواقع إلى الشمال الغربي من مدينة حمص بنحو
20 كيلومترًا، العديد من البلدات والقرى، أبرزها: تلدو، وتل الذهب، والطيبة،
والبرج، والتركمان. وبيّنت مصادر محلية أن عدد سكان السهل قبل عام 2011 وصل إلى
نحو 120 ألف نسمة.