العدد 1659 /16-4-2025

 

 

جوزيف مسعد

في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وبعد ما يقرب من أربعة عقود من الاحتلال العسكري ومصادرة الأراضي وبناء المستوطنات لصالح المستوطنين اليهود، تلاها حصار خانق استمر لعقدين وحوّل غزة إلى معسكر اعتقال مفتوح، جاء الردّ الفلسطيني على إسرائيل. وقد أدى هذا الردّ على عقود من الاستعمار والقمع إلى مقتل نحو 1150 إسرائيليا، يقدّر بأن ثلثيهم من المدنيين. من بين هؤلاء القتلى هناك عدد غير محدد حتى الآن قتلتهم قواتهم الإسرائيلية، حين فعّلت ما يُعرف بـ"بروتوكول حنبعل"، وهو إجراء عسكري إسرائيلي يسمح باستخدام القوة المفرطة لمنع أسر الجنود أو المدنيين، حتى وإن أدى ذلك إلى مقتلهم.

وفي ردها على هذا الهجوم، شنّت إسرائيل حملة إبادة جماعية راح ضحيتها أكثر من 200 ألف فلسطيني بين قتيل وجريح حتى الآن، ودمّرت قطاع غزة بالكامل، مخلفة ما يقرب من مليوني لاجئ، تسعى إسرائيل إلى تهجيرهم قسرا بصورة نهائية.

وصف وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، يوآف غالانت، الفلسطينيين بـ"الحيوانات البشرية"، بينما شدد الرئيس الإسرائيلي على أن "الشعب [الفلسطيني] بأكمله مسؤول"، مضيفا "أن الكلام عن أن المدنيين [الفلسطينيين] غير مدركين وغير متورطين هو غير صحيح البتة". وقد اعتبر هذان التصريحان دليلين رئيسين على نية إسرائيل في الحكم التمهيدي الذي أصدرته محكمة العدل الدولية الذي يلزم إسرائيل بوقف جميع أعمال الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين.

وقد دفع مقتل عشرات الآلاف من الأطفال الفلسطينيين عضوا في الكنيست الإسرائيلي إلى القول إن "أطفال غزة هم من جلبوا ذلك على أنفسهم". ومؤخرا، وصف نائب رئيس البرلمان الإسرائيلي، نيسيم فاتوري، الفلسطينيين بأنهم "دون البشر"، فيما اصطف القادة الغربيون أيضا لتبرير استهداف إسرائيل للمدنيين؛ على سبيل المثال، أيد كير ستارمر، زعيم المعارضة في حزب العمال البريطاني آنذاك، "حق" إسرائيل في قطع الغذاء والماء والوقود والأدوية عن جميع سكان غزة، وهو موقف لم يمنعه لاحقا من تولي منصب رئاسة الوزراء.

ما تمارسه إسرائيل اليوم من قتل وإبادة جماعية غير مسبوق منذ إقامتها عام 1948، ولعل أقرب حملة إسرائيلية مشابهة لها من حيث عدد الضحايا هي غزوها للبنان عام 1982؛ الذي أسفر عن مقتل نحو 20 ألف فلسطيني ولبناني، وتدمير جنوب لبنان وأجزاء واسعة من بيروت. في ذلك الوقت، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن الفلسطينيين بأنهم "وحوش تسير على قدمين".

بررت إسرائيل غزوها للبنان الذي شنّته في 6 حزيران/ يونيو 1982 (والذي انتهك اتفاق وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه الأمم المتحدة لمدة 11 شهرا مع منظمة التحرير الفلسطينية، والذي انتهكته إسرائيل باستمرار طوال مدته وفقا للأمم المتحدة) بأنه رد على محاولة اغتيال سفيرها في لندن شلومو أرغوف، التي نفذتها جماعة أبو نضال في 3 حزيران/ يونيو، وأصيب على إثرها السفير بجروح بالغة. ومن المعروف أن جماعة أبو نضال كانت فصيلا متمردا ومعاديا لمنظمة التحرير الفلسطينية، وقد نفذت الجماعة العديد من عمليات الاغتيال بحق مسؤولين في منظمة التحرير

ما جرى ويجري للفلسطينيين ليس استثناء في التاريخ الاستعماري، بل هو امتداد لسوابق بارزة في سياقات استعمارية مختلفة، وقد تناولت بعضها بإسهاب سابقا في هذا الموقع (في جنوب أفريقيا، وإثيوبيا، والجزائر، وناميبيا، وبلاد أخرى). ورغم أن هذه السوابق قد لا تتطابق كليّا فيما بينها، إلا أن أوجه الشبه بينها تُبرز التفاوت الفجّ في المعايير الغربية، بين أنواع العنف التي تُدان وتلك التي تُبرَّر، وبين ضحايا يُنظر إليهم بوصفهم "جديرين بالتعاطف"، وآخرين يُهمَّشون أو يُنفى عنهم هذا الحق.

ثمة أيضا العديد من السوابق التاريخية لهذا المعيار الغربي المزدوج والمنافق. ففي 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1938، دخل هيرشل غرينسبان، ابن السبعة عشر عاما، وهو لاجئ يهودي من ألمانيا مقيم في باريس، إلى السفارة الألمانية واغتال الدبلوماسي الألماني إرنست فوم راث. وقد استغلّ النظام النازي هذه الحادثة لشنّ مذبحة "كريستال ناخت" أو "ليلة تحطيم الزجاج"، التي قُتل خلالها 91 يهوديا في أنحاء ألمانيا والنمسا، كما دُمّرت آلاف المتاجر والممتلكات اليهودية.

تطرح هذه الأحداث التاريخية، وردود الفعل الغربية الرسمية وغير الرسمية على العنف المشروع وغير المشروع، تساؤلات حول طبيعة التعاطف الغربي وطبيعة إداناته، ناهيك عن أنواع المقاومة التي يُشرّعها والتي لا يُشرّعها. ومع اتساع نطاق آلة القتل الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية، وامتدادها إلى لبنان واليمن وسوريا، وتزايد الدعم الغربي الرسمي وغير الرسمي لها، يبدو أنه لا حدود للتعاطف الغربي مع هذا البلد الإبادي.

حتى هذه اللحظة، لم يُؤلف أي موسيقي غربي بارز عملا واحدا يُجسّد مأساة الفلسطينيين، ضحايا الإبادة الجماعية المستمرة على يد الدولة الصهيونية، ولم يُنتَج فيلم عالمي واحد يُنصف حقهم في الحياة، أو يروي حكاية مقاوميهم بلغة إنسانية حقيقية. لم تُسمَّ شوارع بأسمائهم، بل طُمست أسماء شوارعهم الأصلية في بلدهم المحتل، ومُحيت قراهم ومدنهم التي عمّروها لآلاف السنين. لا نشيد، ولا نصب، ولا أثر. فقط صمتٌ ثقيل، وخرسٌ لا يليق إلا بالمتواطئين.