العدد 1686 /22-10-2025

حسام أبو حامد                   

في مرحلة ما بعد سقوط الأسد، لا تسير إعادة تشكيل النظام السياسي السوري نحو تعدّدية جدّية، بل نحو رسملة جديدة على خطاب الشرعية والسيطرة. وفي هذه اللحظة الرمادية، يحاول إخوان سورية البحث عن موطئ قدم لهم في المشهد الجديد. وتأتي وثيقة جماعة الإخوان المسلمين، "العيش المشترك" (السبت الماضي)، ردّاً متأخّراً (وإن غير مباشر) على دعوة المستشار الرئاسي أحمد موفق زيدان لحلّ الجماعة (قبل نحو شهرَين)، في مشهد سوري تتناقص فيه فرص الفعل السياسي لحساب السيطرة، وتُحتكَر فيه الشرعية خلف واجهاتٍ مدنيةٍ هشّة. سعت الجماعة إلى إعادة تقديم نفسها فاعلاً سياسياً في الداخل السوري، وفي الوقت نفسه، توجيه رسالة إلى المجتمع الدولي بأنها لم تعد تنظيماً أيديولوجياً مغلقاً.

وثيقة إخوان سورية، التي تجنّبت توجيه انتقادات مباشرة للسلطة الجديدة، غابت منها المفردات التقليدية، مثل "الشريعة" و"الحاكمية"، لتحلّ محلّها لغةٌ مدنيةٌ تتحدّث عن الديمقراطية، المواطنة، سيادة القانون، تجريم الكراهية، حرّية الاعتقاد، وتمكين المرأة... ذلك كلّه بدا قطيعةً مع مشروع الدولة الإسلامية الذي اقترن باسم الجماعة. غير أن الوثيقة، رغم لغتها المتقدّمة (كما وثيقة العهد العام 2012)، افتقرت إلى بنية برامجية حقيقية: لا رؤيةَ اقتصاديةً، ولا خطّةَ اندماج مجتمعي، ولا تصوّرَ للعلاقة مع السلطة أو الإقليم. بدت إعلانَ مبادئ أكثر منها برنامجاً سياسياً ناضجاً.

هل يسعى إخوان سورية إلى تأسيس حضور سياسي حديث، أم إلى تدوير حضورها الرمزي في انتظار لحظة إقليمية أو دولية قد لا تأتي؟... يصعب فصل الإجابة عن طبيعة المرحلة السياسية ما بعد سقوط الأسد، فسلطة الأمر الواقع، بقيادة أحمد الشرع، لا تتيح حتى الآن حيّزاً حقيقياً للمشاركة السياسية. من هنا، تمكن قراءة وثيقة "الإخوان" محاولةً لتأكيد الوجود، لا لتأسيس واقع سياسي جديد. فالجماعة التي تتجنّب التصادم المباشر تدرك أن التنازل الكامل عن الفعل السياسي يعني ذوبانها. في المقابل، ترى السلطة أن السماح بعودة الجماعة إلى المجال السياسي يهدّد توازنها الأيديولوجي. وهكذا نشهد معادلة شديدة الهشاشة: علاقة تكتيكية، متوترة، قائمة على اللاثقة واللاحسم، وأيّ تقارب مستقبلي سيكون محكوماً بميزان الردع، لا بصفاء الشراكة. الوثيقة كذلك أقرب إلى نصّ أخلاقي عام منه إلى برنامج سياسي. فلا حديث عن العدالة الانتقالية، ولا عن آليات العمل السياسي أو شكل التنظيم المقبل، ولا حتى عن مراجعات جدّية لتجربة الجماعة. يعزّز هذا النقصُ الانطباعَ بأننا أمام تكيّف لغوي، لا تحوّل بنيوي.

ولم تُنتج الجماعة نخباً جديدة منذ عقود، إذ شلّها القمع والمنفى وانقطاعها عن الداخل، وظلّت بنيتها التنظيمية أسيرة منطق الجماعة المغلقة. وحتى حين غيّرت خطابها، فعلت ذلك من دون مساسٍ بالجوهر، فرغم القطيعة الشكلية مع خطاب الحاكمية، لا تشير الوثيقة إلى أيّ مراجعة فكرية حقيقية تقطع مع خطاب التنظيم العالمي، أو تفصل بين الدعوي والسياسي، كما فعلت مثلاً حركة النهضة في تونس.

قد يبقى العامل الخارجي مُحدِّداً أساساً في فرص عودة الجماعة، بعد تراجع ما تبقى لها من دعم إقليمي تقليدي لمصلحة هيئة تحرير الشام وفصائل التيار السلفي، مع تحالفاتٍ جديدةٍ تشكّلت قبيل إسقاط النظام، وهذا يضع الجماعة أمام خيار وحيد: التحوّل إلى حزب مدني فعلي ببنية شفافة وبرنامج واضح وخطاب وطني قابل للتنفيذ. لا يكفي أن تتبنّى القيم الكونية نظرياً، بل يجب أن تترجمها في مؤسّسات وأشخاص وتحالفات، وإلا فإن سيناريو التلاشي سيكون أكثر واقعيةً. لكنّ فرصةً (وإن ضئيلة) لا تزال قائمةً، شرط أن تفكّر الجماعة في ما بعد التنظيم، وأن تستثمر ما تبقّى من إرثها في بناء سياسي جديد. فالحركات التاريخية، مثل الدول، لا تُمنح مكانة رمزية بالوراثة، فإمّا أن تجيب عن أسئلة الواقع بصيغة الحاضر، أو تُمحى من الذاكرة السياسية مهما عَظُمَ إرثها.

أمّا الإقصاء السياسي الذي تمارسه سلطة دمشق عموماً، وبحقّ إخوان سورية أيضاً، فهو خيار قصير النظر، فالدولة التي تنشأ على إلغاء الخصوم (تضمّنته دعوة زيدان) لا تبني شرعيةً مستدامة، بل تعيد إنتاج الاستبداد بصورة محدّثة. والمطلوب في المحصلة عقد اجتماعي جديد يتيح مشاركةَ كل من يلتزم بالمواطنة والدستور، لا بمنظومة الولاء والطاعة.