العدد 1488 /24-11-2021

قبل أيام احتفل لبنان ومسؤولوه بشكل رمزي بالذكرى الثامنة والسبعين لما يُطلق عليه استقلال لبنان. جرى حفل رمزي في وزارة الدفاع استعرض فيه الجيش بعض وحداته التي باتت منهكة بفضل السياسات المعتمدة في لبنان. وانتقل الرؤساء الثلاثة إلى القصر الجمهوري واكتفوا باجتماع قصير بحثوا خلاله مسألة إيجاد حلّ لتفعيل العمل الحكومي الذي وُلد ميتاً، ومن دون التأكّد إذا ما كان قد تمّ الاتفاق على تفعيل هذا العمل في وقت لبنان أحوج ما يكون إليه، وأقصى ما حصل عليه الصحفيون من رئيس المجلس النيابي بعد اللقاء قوله :"إن شاء الله خير". أمّا رئيس الحكومة فقد ذهب إلى تشبيه الواقع بالمرأة التي كانت تعيش في عصر الجاهلية حالة الظهار، فلا هي معلّقة وعلى ذمة زوجها، ولا هي مطلّقة يمكنها أن تتزوّج بغيره. ربما التشبيه فيه قسوة، ولكنّها الحقيقة المُرّة.

لبنان يحتفل باستقلاله ولكنه لا يملك قراره ولا سيادته ولا يتحكّم بثرواته وقوته! لبنان يحتفل باستقلاله ولكنّه لا يجد حلّاً لأبسط المسائل التي تنظم علاقته بمحيطه أو بالعالم من حوله! لبنان يحتفل باستقلاله وكلّ جماعة ومجموعة فيها شرّعت أبوابها نحو الشرق أو الغرب مستنجدة أو مستغيثة أو مستنصرة على جماعة أخرى شريكتها في الوطن. لبنان يحتفل باستقلاله وهو يستجدي اللقمة التي يأكلها والثوب الذي يلبسه، وقد قال جبران قديماً :" ويل لأمة تأكل مما لا تزرع، وتلبس مما لا تنسج"! فعن أي استقلال نتحدث؟! وبأيّ احتفال يريدون لنا أن نفرح؟!

بعد ثمانية وسبعين عاماً نكتشف اليوم أنّنا خُدعنا بالحديث عن الاستقلال. نعم خُدعنا طيلة تلك الفترة ونحن نظّن أنّنا بلغنا سنّ الرشد وبات بإمكاننا أن نحكم أنفسنا، فإذا بنا نكتشف أنّنا ما زلنا قاصرين عن ذلك، وما زلنا بحاجة إلى رعاية وعناية ومتابعة من الخارج، أو أنّ فكرة التحرّر لم تختمر في نفوسنا وعقولنا بعد، فنشعر على الدوام بعقدة النقص ونحتاج على الدوام إلى مساندة من الخارج.

الحقيقة أنّه لا استقلال حقيقي في ظلّ التبعية للخارج على مستوى كل شيء. لا استقلال حقيقي في ظل اعتماد اقتصادنا على المساعدات والقروض، واعتماد تربيتنا على المؤسسات التربوية التي تغزوا ثقافتنا وأجيالنا، واعتمادنا على السلاح المستورد الممنوح لنا أو لبعضنا من أجل غاية ومهمّة قد تكون معروفة أو لا تكون، غير أنّها بالنسبة لمقدّميها لها هدف وغاية. الحقيقة أنّه ليس استقلال حقيقي في زمن الارتباطات التي تربط كل مكوّن بهذه الدولة أو تلك. وفي زمن الصراع على السلطة والنفوذ تحت العنوان الطائفي والمذهبي والعرقي والقبلي والاجتماعي وغيره. إنّ هذا ما أراده المحتل الذي ترك لنا الأرض والجغرافيا ولكنّه ما زال يحتل العقول والنفوس والإدارة ومواقع صناعة القرار والمسؤولية وغيرها. إنّ الاستقلال الحقيقي عندما يتحرّر الانسان من الارتهان لإرادة الغير. عندما يتخلّى عن أنانيته وتطلّعه لمصادرة كل شيء. عندما يخرج من التفكير الضيق الذي يوزّع الاتهامات بالخيانة تارة والعمالة تارة أخرى في مظهر أقلّ ما يقال فيه إنّه نوع آخر من أنواع التكفير التي يجري توزيع "الشهادات" فيها شمالاً ويميناً.

ربما حلم أسلافنا ممّن عاش قبلنا في هذا الوطن تحت سلطة الاحتلال التي كان يُطلق عليها تخفيفاً "الانتداب" حلم بالاستقلال الحقيقي. استقلال الإرادة والقرار وكل شيء. غير أنّ تلك السلطة استطاعت أن تجهز على حلم أسلافنا عندما خرجت من الجغرافيا ولكنّها ظلّت قابعة في زوايا الإدارة ومواقع القرار فضلاً عن أنّها وجدت لنفسها أماكن في زوايا نفوسنا حيث غذّت فيها نزعة الكراهية والخوف من الآخر والقلق على المصير وكأنّنا لم نعرف بعضنا ولم نكتشفها إلاّ بعد أن جثم ذاك المحتل فوق صدرنا لفترة من الزمن. كما وأنّ هذا "العقل الشيطاني" لذاك المحتل الذي ما زال قابعاً في زوايا وطننا المظلمة استطاع مرّة جديدة أن يجهز على حلمنا بالتخلّص من طبقة طالما عملت في خدمته عندما أعاد إنتاج هذه الطبقة من جديد وانتفاضة السابع عشر من تشرين ليست بعيدة عنّا وكلنا يذكّر كيف تمّ الإجهاز على حلمنا فيها بالخروج إلى الاستقلال الحقيقي الذي تطلّعنا فيه إلى وطن للإنسان.

د. وائل نجم