العدد 1486 /10-11-2021

يقول الإمام الشافعيّ:

قد مات قومٌ وما ماتتْ مكارمُهم * وعاش قومٌ وهم في الناسِ أمواتُ

إذا كنا في حضرة الراحل بروحه والباقي بآثاره، السيد طارق البِشْرِي، فلا أحسن من التعبير عنه بذلك البيت، ولا أنسب من الشافعي لوصفه. فقد كانت له مكانة خاصة عند أستاذنا، وهي مكانة ناشئة من نواحٍ عدة؛ أخصّها نِسبة تدوين علم أصول الفقه إلى الإمام الشافعي رحمه الله، وما وردت سيرة عِلم أصول الفقه في مجلس البِشْرِي إلا وقال: "هو عِلْم منطق المسلمين"، فهو المكافئ لنشأة علم المنطق لدى اليونانيين.

يتهيّب من هو مثلي في الحديث عن الراحل طارق البشري، صاحب الآثار النافعة، والأسفار العملية التي انضبطت لفظا ومعنى. والتجرؤ على التعرّض له ناشئ من حق صاحب الفضل على المُنتفِع به. وكم انتفعت من كُتبه منذ أكثر من 15 عاما، إلى أن أذِن الله بدعوة كريمة من الدكتور هشام الحمامي لمصاحبة الأستاذ في سِنين عمره الأخيرة بلقاء متكرر، نهلنا فيه من ثقافته، وأدبه، وعِلمه، وتواضعه. ولا أذكر هذا لبيان القُرب منه، وإن تشرفتُ بذلك، بل لتوثيق ما وقعتْ عليه عينُ الفقير من مناقب النبيل.

رأينا فيه أخلاق الكرام أبناء الكرام، كان خفيض الصوت، لكنه إذا تكلّم أسْمع الحاضرين بحُجَّته لا بقوة صوته، وكان صاحب شأن ومكانة، لكنه يأسرك بأدبه وتواضعه وهو يصر على أن يقوم بنفسه على ضيافة الحاضرين، وأن تُقدّم الضيافة إليهم قبله لأنهم في حضرته. ولا يستنكف أن يقف أمام شاب في عمر أحفاده يوصله بنفسه حتى يفارقه، وفوق هذا كان يسأل إذا سمع أمرا لم يسبق أن سمعه، ويستفسر إذا وقعت على ذهنه معلومة جديدة، دون ادّعاء للمعرفة رغم سعة اطلاعه. كان مُهذِّبا بكلامه وصمته على السواء، وكان مُعلِّما بحركته وسكونه، ولا يدري المرء متى تقع عينه على مثله في زماننا.

عاش البشري حياته كلها مهموما بمسألة الاستقلال، فهو مولود في الفاتح من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1933، في ظل الاحتلال الإنجليزي لمصر الذي جاوز نصف قرن وقت ولادته، وبعد الجلاء أدرك أن هناك استقلالا آخر تحتاج إليه الأمة، وهو الاستقلال الحضاري، فعاش حياته محاربا للتبعية، وداعيا للتجديد، يُجِلّ الموروث، ويستفيد من الوافد.. يتخير الألفاظ في طرحه، فلا يضع الحدود والمتاريس، بل يصنع الجسور التي تمر عليها الأفكار بقدر ما تحتمل هذه الجسور. وهذا الوعي البالغ ارتبط برحلة طويلة نشير إلى بعض منها بإيجاز.

كانت نشأته، رحمه الله، بين العمامة والطربوش، كما في كتاب "حوارات مع طارق البشري"، فالعمامة كانت لسبعة من أعمامه الذين درسوا في الأزهر الشريف، وقد كان أبوهم شيخا للأزهر (الشيخ سليم البشري)، والطربوش كان لأبيه القاضي عبد الفتاح البشري، الذي درس في المدارس الحديثة، ولأولاد عمومته الذين التحقوا جميعا بالمدارس الحديثة، ثم لكل من اتصل بهم على مسيرة الحياة من مدرسي المدارس إلى غالب أساتذة الجامعة، إلى الزملاء والأقرباء، فأخذ البشري من هناك وهناك، لكنه تشرّب بالثقافة العلمانية في فترة حياته الأولى منذ تخرجه. ورغم استغراقه في العلمانية (السياسية لا الثقافية)، فإنه بقي على اتصال بالدين عبر دراسته وعمله، فقد تتلمذ على أيدي المشايخ عبد الوهاب خلاف وعلي الخفيف ومحمد أبو زهرة، فأصبح يوم دراسته للشريعة يوم نزهته، كما يقول.

جاءت حرب 1967 لتحدث نقلة في المجتمع، وتأثر بها البشري، ففكّر في مسألة ترابط المجتمع واعتبرها نقطة انطلاق مسألة الاستقلال. وترابط المجتمع منشؤه من عقائده وثقافته، ومن هنا بدأ يتحول من العلمانية، فالعلمانية السياسية وهي تطرح مسألة الاستقلال، تُفقد الاستقلال الهوية التي يستقل بها، والبُعد الحضاري الذي يجمع المجتمع، فبدأت رحلة جديدة في مسار حياة الراحل.

امتدت هذه الرحلة لأكثر من عقد من الزمان، وأول ما كتب في المسألة الإسلامية كان مقال "رحلة التجديد في التشريع الإسلامي" عام 1979، لينطلق على مدار 42 عاما في ربط الاستقلال بالهوية الوطنية الجامعة، دون مغالاة أو تعصب، بل بالنقاش العلمي الذي أجبر مخالفيه على الرضوخ أمام تماسك منطقه، وإن لم يغفروا له تحوّله الفكري.

لم تكن رحلة البحث عن الحقيقة عند البِشري محصورة في الجانب الثقافي، بل امتزجت الروح والمادة ليُشكّلا نموذجا معرفيا وثقافيا عَزّ نظيره، ويقول عن ذلك: "كانت قمة استعادتي لهويتي الإسلامية هي رحلة الحج التي قمت بها في سنة 1403هـ/1983م. لم أسافر إلى الحج إلا بعد أن وجدتُ نفسي قد خلصتُ لهذا الأمر، وحتى أعدتُ بنائي الفكري والسلوكي على أساس إسلامي. وقد أخذ هذا وقتا كبيرا حتى أسافر وأنا نظيف، وأنا هناك شعرتُ كأنني خرجت من جاذبية كوكب إلى جاذبية كوكب آخر، وحينما رأيت الكعبة سألت نفسي: من أتى بي إلى هنا؟ وشعرتُ بهداية الله، وتذكرتُ قوله تعالى: ثم تاب عليهم ليتوبوا".

هذا التوقف عند تلك المرحلة ليس بغرض الانتصار لما ذهب إليه أستاذنا الراحل، بل لبيان سيرة العظماء ورحلتهم. فالبشري ظل حتى بلغ الخمسين من عمره وهو في رحلة بحث، واستمر حتى انتقاله إلى جوار ربه باحثا كذلك، لكنه بحث بغرض التعمّق في ما وصل إليه بعد خمسة عقود من حياته، وقد استوت أفكاره على سوقها، وأصبح هدف الاستقلال قِبلة حياته العامة، وصاغ ذلك بقوله: "ثَمَّة ما يوجب تحديد الأهداف العليا التي يجتمع عليها المجتمع في هذه المرحلة من تاريخه، وتتعلق بالحفاظ على هويته وعقائده وثقافته وأرضه ومصالحه الاقتصادية وحريته في التعبير والنهوض، وهي على الجملة، أهداف الاستقلال في مواجهة التبعية، والتَّوَحُّد في مواجهة التجزئة، والأصالة الحضريّة والعَقَديَّة في مواجهة الازدواج الفكري والنفسي الذي يشق المجتمع ويَفْصِمُه". والناظر إلى هذه الأهداف يدرك جيدا أنها بوابة النهوض الحضاري، والانعتاق من الاستبداد والتبعية.

ما أثقل أن تأتي ذكرى مولد البشري (1 تشرين الثاني/ نوفمبر)، ونكتب مراثيه بدلا من أن نحتفي به، ولكنها سنة الحياة التي لا تبقي حبيبا، وإن أبقت لنا مآثره، وهي مآثر نجدها في كل سطر سطره بقلمه، وكل نداء وجهه إلى أمته بصوته الدافئ، وكل معرفة أنار بها السبيل إلى التحرر والتعقّل.. والحمد لله.

شريف أيمن