العدد 1517 /22-6-2022

الشيخ عصام تليمة

في تاريخ الإخوان المسلمين صفحات مجهولة، يجهلها كثيرون من الإخوان، ويجهلها كثيرون أيضا من خصومهم، فبعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو سنة 2013م، انطلق عدد من الصحفيين والكتاب ومشايخ النظام العسكري، بادعاء انقطاع صلة الإخوان بالأزهر، وتبرؤ الأزهر منهم، مستغلين بذلك بيانات ونشرات ومقالات كانت تكتب بالأمر المباشر من سلطة عبد الناصر فيما بعد يوليو 1952م، وقد كشف الكثيرون عن كيفية الضغط على المشايخ والكتّاب لكتابة هذه الكتابات ضد الإخوان وغيرهم.

ولعل من أهم المعلومات التي يجهلها الكثيرون عن الإخوان، أن أول مرشد للإخوان بعد حسن البنا كان عالما أزهريا معروفا، فبعد غياب البنا عن الساحة، سواء قبل وفاته بقليل أو بعدها، ظلت جماعة الإخوان بلا مرشد رسمي معلن، لمدة تزيد عن عام وتقترب من عامين، في هذه الفترة كان القائم بأعمال المرشد، والمرشد الحقيقي الذي يسير أمور الجماعة، هو العالم الأزهري المعروف الشيخ أحمد حسن الباقوري رحمه الله.

قرأت المعلومة أول مرة منذ سنوات طويلة في موسوعة سفير الإسلامية، عند حرف الألف، واسم أحمد حسن الباقوري، وفوجئت بمعلومة أنه تولى أمر الإخوان بعد البنا، إلى أن تم تسليم المنصب والأمور كاملة للمرشد المنتخب المستشار حسن الهضيبي رحمه الله. وكانت معلومة الموسوعة في أقل من سطر، ولم تكن شافية من حيث المعلومة التاريخية والتفاصيل، إلى أن قرأت مذكرات الباقوري، والتي تحمل عنوان: "بقايا ذكريات".

يحكي الباقوري في مذكراته في عدة صفحات قصة ما حدث، بعد قرار حل جماعة الإخوان المسلمين، وقتل النقراشي رحمه الله (من صفحة 78 إلى صفحة 94 من الكتاب)، فقد طلب البنا الباقوري للقاء مرتين، أخطأ في الأولى في العنوان فلم يصل إليه، ثم حدد له موعدا آخر في جمعية الشبان المسلمين، بحضور زوج أخت البنا الأستاذ عبد الكريم منصور، وطلب البنا من صهره أن يكون حارسا للباب حتى لا يدخل أحد، لأهمية ما سيفضي به للباقوري. ويحكي الباقوري ما قاله البنا فيقول:

"جعل الأستاذ المرشد يتهيأ للكلام، وقد ارتسمت على صفحة وجهه معان كثيرة لم أعهدها فيه من قبل، ثم أقبل علي في صوت خفيض فقال: لقد دعوتك اليوم لأفضي إليك بحديث أرجو أن تكون عليه حفيظا، ولحقه راعيا.

فأجبته كما كنت أجيبه دائما: إنني طوع أمرك، والله المستعان.

فجعل يقول رضي الله عنه: "إنني سأختفي".

وحين طرقت هذه الكلمة أذني أحسست أن الحجرة التي نجلس فيها قد تبدلت معالمها، ولم أعرف ماذا يقصد بكلمة "سأختفي"، فسألته: ماذا تقصد؟ فإني لا أفهم، فأجابني: "قد أغيب غيبة طويلة ومن يدري فلعلنا لا نجتمع بعد ذلك".

ولم أملك دموعي، فإن حبي للرجل فوق كل حب، ولكنه استدرك قائلا: "لقد رأيت بالأمس رؤيا تكررت مرتين قبل الفجر، وفي كل مرة كنت أقوم من النوم، وأستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ولكني رأيتها مرة ثالثة في الليلة نفسها فلم أشك أنها رؤيا حق، فقد رأيت أنني أمسك بزمام ناقة يركبها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ثم إذ بيد تمتد إلى زمام الناقة فتأخذه من يدي، فعلمت أن مهمتي قد انتهت، وأنني لا بد أن أغيب، فإذا غبت -على أية صورة كان غيابي- فأنت مكاني، حتى لا تنحل الدعوة.

وقد أوصيت بذلك الإخوان المسلمين، ولكنني أوصيك أن تظل ترعى شؤون الإخوان في حدود ما تطيق حتى تنكشف عنهم الغمة، ويخرجوا من معتقل الطور، فعند ذلك عليهم أن يجتمعوا ليختاروا من يشاؤون، ونصيحتي لك أن لا تستأثر بالأمر دونهم، وأن لا تختلف معهم، فإن أمتنا الإسلامية لم تنزل بها البلايا، وتعترضها الصعاب إلا بسبب الخلاف، والله تعالى معكم ولن يتركم أعمالكم، والله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون".

امتثل الباقوري للأمر، وأخبر من يعرف من الإخوان بذلك، وأقروه، وفكروا في حيلة يسافر بها البنا خارج مصر، ورفضها البنا، وملخصها: أن يعمل له جواز سفر بصورة البنا المعروفة، ثم بعد ذلك يحلق لحيته، ويضع كريمات على وجهه وكأنه مصاب بالتهابات، مما يخفي معالم وجهه عن ضابط الجوازات، وبذلك يتمكن من السفر خارج مصر، وينجو مما ينتظره، ويكون سفره لسوريا، ولكن البنا رفض الفكرة لأن طبيعته لا تقبل مثل هذه الحيل، واكتشاف أمر كهذا سيؤدي إلى زعزعة ثقة الإخوان بمرشدهم، وقد أخذوا عنه فكرة وصورة معينة، لا يليق به أن ينزل عنها.

ثم اغتيل البنا، وتولى أمر الجماعة فعليا الباقوري، وبعد خروج الإخوان من السجن، قام بجمع المعنيين بالأمر من التنظيم، لاختيار مرشد آخر، واقترح الباقوي بحنكته الأزهرية، أن الجماعة تحتاج لرجل تاريخه معروف، وليست له مشكلات مع السلطة أو الشعب، فتم اختيار المستشار حسن الهضيبي، ورفض الهضيبي العرض أكثر من مرة، ثم استجاب لضغوط الباقوري ومن معه.

ولكنه اشترط عليهم شروطا ثلاثة، أولها: أن يكون وكيله من رجال القانون، فاختاروا له عبد القادر عودة رحمه الله، وثانيها: إبعاد عبد الحكيم عابدين وطاهر الخشاب رحمهما الله من الهيئة التأسيسية للإخوان، وثالثها: حل التنظيم الخاص، لما جره على الجماعة من محن ومشكلات، وأجابه الإخوان لمطالبه، وعملوا على تنفيذها.

انتهت مهمة الباقوري عند هذا الحد، وأصبح للجماعة مرشد جديد تم اختياره برضا غالبية الإخوان، لكن ظلت معلومة المرشد الثاني للإخوان الذي تولى مهام البنا قبل وبعد وفاته مجهولة للكثيرين، ومن يتولى في مرحلة انتقالية في عرف الإخوان يعد من المرشدين، وهو ما قام به الإخوان بعد وفاة الأستاذ مأمون الهضيبي، فقد تولى الفترة القصيرة التي تلته وسبقت اختيار الأستاذ محمد مهدي عاكف رحمه الله؛ الأستاذ محمد هلال، وقد كانت صور المرشدين تعلق في مكتب الإرشاد، وبينهم محمد هلال، رغم أنه تولى مدة قصيرة كفترة انتقالية، فما بالنا والباقوري تولى الأمر في حياة البنا نفسه، وبعد وفاته، لمدة تقترب من العامين.