العدد 1480 /29-9-2021

شيّعت بيروت آخر ضحايا تفجير مرفئها. إبراهيم حرب الذي انتظر 420 يوماً قبل أن يُسلم الروح، بعدما أيقن بأن القوم في لبنان يأتمرون عليه وعلى أكثر من مئتي شهيد وآلاف الجرحى من ضحايا انفجار المرفأ، وأن العدالة التي انتظرها أربعة عشر شهراً وهو في غيبوبة في المستشفى لن يصل إليها، وليس له إلا محكمة السماء، ليشكو مظلمته إلى ربّ عادل، حيث لا اعتبار لرئيس أو وزير أو نائب أو ضابط ترصّع كتفه النجوم، جميعهم سيتمّ استدعاؤهم واستجوابهم ومحاسبتهم، فينال كل ذي حق حقه.

فقرار "كفّ يد" المحقق العدلي بجريمة انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار لم يكن مفاجئاً، بل جاء في سياق طبيعي، بعدما تمّ التمهيد له بمواقف وتصريحات وتهديدات. ربما كان متوقعاً من المحقق أن يخاف أو يتراجع أو يتنحّى من تلقاء نفسه، لكنه لم يفعل، فكان القرار بـ"قلعه" حسب تعبير الصحفية التي نقلت رسالة من أحد مسؤولي حزب الله للقاضي بيطار.

لم يكن أداء القاضي بيطار مثالياً، والارتياب المشروع من أدائه كان محقاً، فالاستنسابية بقرارات الاستدعاء والاتهام كانت واضحة. اتهام لوزير دون آخرين كانوا في المنصب نفسه ويتحملون مسؤولية التقصير نفسها. اتهام لرئيس وزراء دون الآخرين، اتهام لضابط كبير دون آخرين، جميعهم كانوا على علم بوجود نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت طوال سنوات تبوّئهم سدة المسؤولية ولم يبادروا لاتخاذ أي إجراء بشأنها.

يسجّل للقاضي بيطار أنه لم يُعر الخطوط الحمر اعتباراً، وضرب حصانات يحميها القانون، ووجّه اتهامات لكبار القوم وأزلامهم. فحادث استثنائي كانفجار مرفأ بيروت يتطلب إجراءات استثنائية ربما تخالف الأعراف والحصانات، لكن هذه الإجراءات كان يُفترض أن تطال جميع المسؤولين مهما علا شأنهم. فالحصانات في لبنان لا ترتبط فقط بالنصوص الدستورية والقانونية، بل بأعراف ربما تكون أكثر قوة وإلزاماً من النصوص الدستورية، خاصة في بلد كلبنان. فاتهام رئيس وزراء ذنبه أنه عرف بوجود النيترات ولم يفعل شيئاً، يُحتّم قبل ذلك اتهام رئيس جمهورية كان أيضاً يعرف بوجود النيترات لسنوات، وكان يملك صلاحيات أوسع من صلاحيات رئيس الوزراء باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة لكنه لم يفعل شيئاً. ولأن القاضي لم يوجّه اتهاماً لرئيس الجمهورية، فإن الارتياب من قرارته لا يكون مشروعاً فقط بل مطلوباً.

أزمة المحقق العدلي لا تتعلق فقط بالارتياب من قراراته، بل أيضاً في أن اتهاماته مخالفة للدستور، وهو ما أعطى المتهمين والقوى السياسية التي تقف خلفها ذريعة لعدم التجاوب معه وإهمال طلباته. فحسب الدستور محاكمة الرؤساء والوزراء تكون أمام محكمة "المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء"، وهذه المحكمة إجراءاتها معقدة ويتطلب انعقادها توفر ثلثي أعضاء مجلس النواب، وهو ما يتعذر حصوله بما أن المتهمين ينتمون لكتل نيابية وازنة ولها تحالفاتها في المجلس النيابي، مما يعني بأن هذه المحكمة لن تنعقد.

قرار "كف يد" المحقق العدلي أعطى دفعة للمُنادين بمحكمة دولية خاصة بانفجار مرفأ بيروت. يعتبر هؤلاء أن التدخلات السياسية في عمل القضاء ستحول دون محاسبة ومعاقبة المسؤولين عن انفجار المرفأ، وأنه لابد من محكمة دولية تكون بعيدة عن التدخلات وقادرة على توجيه الاتهامات إلى المسؤولين مهما علا شأنهم وبمعزل عن التعقيدات اللبنانية. هؤلاء يريدون محكمة شبيهة بمحكمة الرئيس رفيق الحريري التي شكلت مادة خلافية داخلية، واستنزفت ميزانية الدولة لأكثر من 15 سنة، ثم في النهاية اقتصر حكمها على اتهام شخص بمفرده لا أحد يعرف أين هو اليوم.

ربما كان خيار الشهيد إبراهيم حرب محقاً، فلا أمل بتحقيق العدالة، فأسلم الروح لبارئها ليشكو أهل الأرض إلى رب السماء.

أوّاب إبراهيم