العدد 1482 /13-10-2021

تتخطى التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت، الذي وقع في 4 أغسطس/آب 2020، وأسفر عن سقوط 218 قتيلاً ونحو 7 آلاف جريح، المسار القضائي لمحاكمة المسؤولين عن هذا الحادث الذي لا يزال لبنان واقعاً تحت تبعاته، فمنذ اقتراب القضية من بعض المسؤولين والسياسيين بدأت حرب السلطة على التحقيق، والتي أطاحت بالمحقق العدلي السابق القاضي فادي صوان، قبل أن تستعر حدتها وتخرج إلى العلن بشكل أكبر منذ تسلم المحقق العدلي الحالي طارق البيطار هذه القضية وادعائه على وزراء ومسؤولين آخرين. الحملة ضد البيطار، واتهامه بـ"الاستنسابية والتسييس والاستهداف السياسي"، وفق تصريحات الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله مساء أمس الأول الإثنين، وتحذيره من "كارثة سيذهب إليها البلد إن أكمل القاضي بهذه الطريقة"، ترافقت مع استمرار الدعاوى لكف يد البيطار، لتتوقف التحقيقات للمرة الثانية في غضون أسبوعين بعد تبلغ البيطار طلباً جديداً بردّه من قبل الوزير السابق علي حسن خليل وزميله الوزير السابق غازي زعيتر. وبهذا تُكفّ يده مرحلياً إلى حين البت بالطلب من قبل محكمة التمييز المدنية برئاسة القاضي ناجي عيد، ما علّق جلسات استجواب المدعى عليهم زعيتر، ووزير الداخلية السابق نهاد المشنوق ورئيس الحكومة السابق حسان دياب.

وقبيل دقائق من كف يده أمس، كان البيطار يرد على تمنّع حسن خليل عن حضور جلسة الاستجواب معه أمس، بإصدار مذكرة توقيف غيابية بحقّه بتهمة "القتل والإيذاء والإحراق والتخريب معطوفة جميعها على القصد الاحتمالي"، غير آبهٍ للتهديدات بحقه. وعززت خطوة المحقق العدلي وتحديداً جرأته في إصدار مذكرة توقيف غيابية بحق الرجل الأقرب إلى رئيس حركة "أمل" رئيس البرلمان نبيه بري، وتمسكه بمواصلة تحقيقاته، المخاوف على أمنه خصوصاً في ظل التنبيهات المباشرة التي بعثها نصرالله إليه بعدما لم تفلح تلك المبطَّنة التي أرسلها عبر مسؤول وحدة التواصل والارتباط في الحزب وفيق صفا بحسب ما تم تسريبه إعلامياً أخيراً عن نية في "قبعه" (إزالته) وفي ظل عدم وجود أي دعم سياسي له.

ومنذ تسلمه القضية في 19 فبراير/شباط الماضي، قوبل البيطار بمجموعة من الدعاوى لكف يده عن الملف، ولا سيما منذ إصداره مذكرة توقيف غيابية بحق وزير الأشغال السابق يوسف فنيانوس في 16 سبتمبر/أيلول الماضي، وبعد قراره ملاحقة النواب بمجرد تعليق حصاناتهم بفعل نيل حكومة نجيب ميقاتي الثقة في 20 سبتمبر الماضي، ليتحوّل الملف إلى مواجهة بين المسؤولين السياسيين والمحقق العدلي. مع العلم أن المعركة بدأت أولاً مع المحقق العدلي السابق القاضي فادي صوان الذي كُفت يده للارتياب المشروع لذرائع شككت بحياديته منها "أنه متضرر في منزله"، لأنه يسكن في منطقة الأشرفية التي طاولها الانفجار.

البداية ضد البيطار بدأت مع الطلب الذي تقدّم به فنيانوس لنقل الدعوى للارتياب المشروع أمام محكمة التمييز الجزائية والتي لم توقف التحقيقات، فما كان من المشنوق إلا أن تقدّم بطلب لردّ المحقق العدلي أمام محكمة الاستئناف في بيروت، لتكفّ يد القاضي البيطار مرحلياً في 27 سبتمبر الماضي. كما تقدّم زعيتر وحسن خليل بدعوى ردّ أمام المرجع نفسه ليرد رئيس المحكمة نسيب إيليا الطلبات لعدم الاختصاص النوعي ويغرم المستدعين، وهو ما سمح للمحقق العدلي باستئناف مهامه بعد أسبوع. مع عودة البيطار إلى عمله، وتحديده في 5 أكتوبر/تشرين الأول الحالي جلسات استجواب جديدة بحق المدعى عليهم، انهالت الدعاوى مرة جديدة عليه، إذ تقدّم فنيانوس بإخبار "تزوير" بوجه البيطار، كما تقدّم المشنوق مرة جديدة بطلب لنقل الدعوى بسبب الارتياب المشروع وطلب لوقف السير بالتحقيقات إلى حين البت بالدعوى أمام محكمة التمييز الجزائية. كذلك تقدّم حسن خليل وزعيتر بدعوى ردّ أمام محكمة التمييز المدنية التي عادت وقرّرت عدم قبولها، فما كان من المدعى عليهما إلا أن طلبا نقلها إلى مرجعٍ آخر غير القاضية جانيت حنّا، لتنقل إلى رئيس غرفة أخرى ويبلغ بها البيطار أمس الثلاثاء، فيتوقف التحقيق بانتظار البتّ بها.

وتعليقاً على ذلك، يقول المحامي فاروق المغربي، في حديث مع "العربي الجديد"، إن كل هذه الدعاوى تهدف إلى المماطلة وخصوصاً إلى ما بعد تاريخ 19 أكتوبر الحالي، إلى حين استعادة النواب حصانتهم، ووقف التحقيقات، وطبعاً سيلجأ المدعى عليهم إلى خطوات لاحقة تبعاً لما ستبت به المحكمة في طلب الردّ. مع العلم أنه تعلّق حصانة النواب بمجرد أن تنال الحكومة الثقة في جلسة البرلمان وحتى بدء دورة العقد الثاني لمجلس النواب وهي بحسب الدستور أول ثلاثاء بعد 15 أكتوبر/تشرين الأول أي 19 أكتوبر المقبل. ويشير المغربي إلى أنه في حال كف يد البيطار سيُصار إلى تعيين قاضٍ جديد (الثالث بهذه الحالة بعد صوان والبيطار) ليتولى الملف ويدرسه، ما سيعوّق القضية أشهراً إضافية، أما إذا رُدّ الطلب فسيستكمل المحقق العدلي تحقيقاته ويحدد جلسات استجواب جديدة وحتماً سيقابل ذلك إجراءات سيلجأ إليها المدعى عليهم الذين يحاولون بكل الوسائل وقف مسار الملف.

ويلفت المغربي إلى أن النيابة العامة لم تعمّم بعد مذكرة التوقيف الغيابية الصادرة بحق فنيانوس، ما يجعلها مجرد مذكرة توقيف معنوية وهو ما سيكون حال مذكرة التوقيف الصادرة بحق علي حسن خليل، أما وزير الداخلية بسام المولوي فقد رفض إعطاء الإذن بملاحقة المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم كما فعل وزير الداخلية السابق محمد فهمي.

ويتسلّح المدعى عليهم بمرجعياتهم الحزبية السياسية والدينية، بعدما باتت تصاريح هؤلاء والخطب الدينية مخصصة للهجوم على المحقق العدلي واتهامه بتسييس التحقيق. حتى أن المشنوق تحدّى البيطار من على منبر دار الفتوى، قبل أن يركن إلى مرجع دستوري فرنسي ليثبت نظرية عدم اختصاص المحقق العدلي ويتمسك بالمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء غير المفعّل أصلاً والمعطّل منذ التسعينيات. عدا لجوء المدعى عليهم وسلطتهم السياسية لجملة مناورات احتيالية للإطاحة بالتحقيقات مستفيدين من بعض الثغرات القانونية. في حين شكّك رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي بالتهديد الذي وصل إلى البيطار عن طريق صفا، وقال من بكركي بعد لقائه البطريرك الماروني بشارة الراعي أخيراً إن "لا شيء مؤكداً ولقد استفسرنا عن موضوع التهديد، والتحقيق يقوم به وزير العدل هنري خوري"، متهماً البيطار بطريقة غير مباشرة بالشعبوية، إذ دعا إلى التمييز بينها وبين القانون والدستور للوصول إلى الحقيقة.

من جهته، يشرح المحامي مازن حطيط لـ"العربي الجديد" أن "مذكرة التوقيف لا تُبطل مفاعليها وتبقى أصولية وقانونية في حال كف يد القاضي البيطار ولا تُسحب إلا في حال قرر المحقق العدلي الحالي أو أي محقق عدلي لاحق استردادها. لكنه يتوقف من جهة ثانية عند حالة تمرد جديدة في القضاء تنتهجها النيابة العامة التنفيذية التي تخالف الأصول وتقوم بتمثيل المدعى عليهم في القضية بدل الحق العام من خلال امتناعها عن تنفيذ مذكرات الإحضار أو التوقيف. ويرى حطيط أن "هناك منظومة سياسية أفلست البلد وأودت به إلى الانهيار وفجّرته في الرابع من أغسطس، تعيش اليوم حالة من الجنون، إذ لم تستوعب بعدُ أن هناك محققاً عدلياً جريئاً وقضاة يحكمون بضميرٍ وعدل ويطبّقون الأصول القانونية، وهي التي اعتادت على قضاة غبّ الطلب وأن تحلّ ملفاتها عبر مكالمة هاتفية، وهو ما دفعها للجوء إلى سلاحها الوحيد بتغذية الصراعات الطائفية والمذهبية والسياسية، مرفقة بهجوم وتهديدات وحملات تشويه سمعة، والأخطر تضليل الرأي العام برمي أخبار ومعطيات ووقائع لا تمت للحقيقة بصلة".

ويشير حطيط إلى أن "السلطة السياسية لا يمكن أن تستوعب أي تحقيق خارج سطوتها، هي التي غطت وسكتت وأغفلت أحكاماً قضائية ظالمة جداً ولم تخوّن أي قاضٍ لأنهم بكل بساطة من قضاة المنظومة، لكنها كشّرت عن أنيابها وانهالت بالهجوم على قاضٍ يطبق القانون ويريد العدالة ومحاسبة المسؤولين عن التفجير". ويرى أن "القاضي البيطار يتعرض لاغتيال معنوي كبير وحملات تخوين وتهديد أبرزها على مواقع التواصل الاجتماعي، والمخاوف دائماً موجودة من الاغتيال الجسدي وليس فقط للمحقق العدلي بل أيضاً لجهة الادعاء التي طاولها الهجوم والتحريض الإعلامي وكل فريق العمل".

من جهته، قال المحامي نزار صاغية، المدير التنفيذي للمفكرة القانونية، وهي منظمة غير حكومية تُعنى بالأبحاث القانونية وحملات المناصرة الحقوقية، لفرانس برس "ثمة قرار سياسي بعدم السماح له (البيطار) بالعمل، والأمر ليس مجرد مماطلة"، معتبراً أن "القوى المعترضة عليه تستنفد كل ما لديها من وسائل قانونية لكن من الواضح أن ثمة أطرافا مستعدة لاستخدام وسائل غير قانونية لمنعه من العمل". واعتبر أن كلام نصرالله "دليل على نفاد الصبر" لدى السياسيين، مشيراً إلى "حملة ممنهجة لتشويه صورة القاضي وتظهيره على أنه قاض مسيس"، مرجحاً أن يكون ذلك لسببين إما "تبرير إزاحة القاضي ولو بطريقة غير قانونية أو التشكيك بمشروعية أي قرار يصدر عنه ووضعه ضمن إطار الخصومة السياسية المفتوحة وليس العمل القضائي".