العدد 1539 /30-11-2022

يقظان التقي

تستمر فصول الأزمة السياسية في لبنان. تعثر مسألة انتخابات رئاسة الجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون، استحقاق انتخابي متأخر، يقع في ظل متغيرات سياسية، حيث يمكن فهم عزلة لبنان أكثر وأكثرعن الرهانات الإقليمية والدولية. سيادة الدستور تراجعت، والاجتهادات في مراجعة المواد الدستورية لا تستند إلى مفاهيم برلمانية ديمقراطية (آيلة للنفاد). دستور لم يعد قادرا هذه المرّة على تمثيل توازن القوى أو السيطرة عليها. لبنان في مواجهة تحدّيات غير عادية، ولم يسبق أن بلغ الاهتراء الحد الذي يضرب حياة اللبنانيين ومستقبلهم. حيرة وإرباك يشيران الى عدم إيضاح تسوية على القاعدة التقليدية، الوثيقة الأساس للبنان، اتفاق الطائف (1989)، وحتى على قاعدة الميثاق الوطني (1943)، نتيجة انخراط حزب الله في السيطرة على المجالين السياسي والأمني العام، في ظل دستور توازن قوى جديد لسلطاتٍ أكبر من منطق الدولة والقانون، يعكسها إصرار الثنائي الشيعي على اسم رئيسٍ للجمهورية يكون مواليا. لا تبدو التيارات والأحزاب السياسية الأخرى، ومنها التغييرية، قادرة على الاتحاد في مواقف متجانسة بعد الانتخابات التشريعية التي انتظمت في مايو/ أيار الماضي، أو أنها قلقة كفاية على مصير البلاد، ومهتمة فعلا بايجاد مخارج وحلول للمشكلات، أو النظر استراتيجيا إلى عمق الأزمة، في نسق الصراعات القائمة في المنطقة، كأن يكون لبنان مسرح الصدى والفراغ، مع عدم قابلية المؤسسات للحياة، وسط منازعات ثنائية وجماعية، إلا في إطار مسؤوليات دولية، يتطلع إليها البطريرك الماروني بشارة الراعي، ويعمل عليها الكرسي البابوي في الفاتيكان، في لقاءات مع سفراء الدول المعنية بالأزمة اللبنانية.

في الأثناء، يخيم ظل فراغ ثقيل ومظاهر من عدم الاستقرار والانهيارات البنيوية الشاملة، وأوضاع يمكن أن تنفجر أمنيا. الحد الأدنى الذي يمكن انتظاره هو الإتيان برئيس ينفذ 10% من أجندة التعافي والإصلاح، والاستفادة من الهبة النفطية البحرية (قيد مفاوضات الترسيم والتنقيب). ليس هناك من تأكيد على هذه الروزنامة، من طبقة حاكمة، لا تعي طبيعة المتغيرات الإقليمية في غير مكان، وخطورة نتائج الانتخابات الإسرائيلية، وآثار الحرب الروسية الأوكرانية، وتعقيدات الملف النووي الايراني. كلها أوضاع تفترض استجابة للتحدّيات.

هل سيتراجع نتنياهو عن خطوة الترسيم البحري؟ هل تستمر قوة بايدن في إعطاء ضماناتها، ومعها الحاجة الأوروبية إلى الغاز، وبالتالي إلى مرحلة من الاستقرار الإقليمي؟ في المقابل، الثقة بالسلطة في لبنان شبه معدومة، مزيد من النكران، الميوعة السياسية، والترف في التقاط الإشارات الدبلوماسية الغربية/ الفرنسية والأميركية، المحذّرة من تفكّك الكيان. لم يحصل تقدير كامل للتاثير الواسع للقوى الحزبية المهيمنة، ما يؤكّد اختيارها منهجيةً توفر قسما أكبر من الروابط فيما بينها، ولا تعترف بالواقع السياسي، ولا تحترم القواعد الدستورية الآمرة، وتطور الواجب السياسي. نرجسية سياسية مثل الرصاص الطائش، ولا معرفة للمدى الذي يمكن أن تؤدّي إليه عملية فهم تلك الحقيقة الثقيلة بين أشياء أخرى، تبقي البلد بعيدا عن الهدوء والسلام.

عدم انتخاب رئيس للجمهورية ليس علامة دراماتيكية مفاجئة، مع عناصر استمرارية لزعماء لا يهتمون، ليل نهار، بالخير العام، ولا يعملون شيئا في مصلحة واضحة للبلد ككل. فرق كبير بين الممارسة السياسية وتحقيق النجاح في الحياة العامة، وبين الصرامة الأخلاقية ــ السياسية، فلبنان مهدّد بمفاهيم الممارسة السياسية نفسها أشبه بديكتاتوريات القرون الوسطى. ساسة ورجال أعمال وتجار يركّزون انتباههم على ثروات المواطن والوطن، وهي أكثر ما تفيدهم، والسعي وراء جرائمهم المباحة، والتصرّف بأمور البلاد. هذا لا يعني أن اللبنانيين ليسوا هم أنفسهم سبب جميع أحزانهم، "الشعب المستبد"، والدليل هذه الجحيم، مصدر الآلام، والأمور دوما متاحة لممارسة شجاعتهم بطريقة تجعلهم ينقلبون على الحظ البائس. غاليا ما يلقى باللوم على العدالة والتعاسة (رافائيل ألبرتي 1902-1999)، والناس، في معظم الأحيان، هم المسؤولون عما يصيبهم من خير وشر. اللبنانيون أقرب إلى الأسطورة الألمانية (فاوست)، باعوا وطنهم لشياطين السياسة. لذلك ما هو موجود حاليا سوف يعود، وهم حيارى لجهة ما يملي الحظ والظروف لانتخاب رئيس جمهورية. كل يوم أشياء غير صالحة في عمل المؤسسات الدستورية، حيث الوطن من فوق له اعتبار آخر.

إدارة الملف السياسي مليئة بالأخطار، والزعماء يحتجون بالقول إنه لم يكن في مقدورهم فعل شيء، مع أنهم يتصرّفون كآلهة حظ بالنسبة لجماعاتهم. رؤساء، وزراء، نواب مخلصون! وهم في حالة تواطؤ مثمرة لا ينقصها شيء، ما عدا صفات القيادة التي فقدت فعليا منذ العام 2005. ذلك أن السلم الأهلي في بلدٍ هو من أسمى الأشياء جميعها. نواب الأمة لا يعرفون إدارة شؤونهم، واللبنانيون في حالة يأس شامل، يولدون ويعيشون ويموتون بنظام يبقى كما هو، فالقاعدة هي الانشقاق، والنزاع، وخطاب قلب الطاولة، وتحويل الأمور إلى "قبر وطني"، لانعدام الكفاءة والبصيرة ورغبة الاستقواء. لم تعد السلطة تقدم على أي خطواتٍ تظهر أن في مقدور لبنان حكم ذاته. والنتيجة واحدة، هي انتصارات فئوية. يسدّ رئيس مجلس النواب، نبيه برّي، الذريعة بالدعوة إلى جلسات انتخاب رئيس الخميس، والعشاء السرّي في مكان آخر، يرفع عنه العتب، مثل تصريح قيادة حزب الله الأول "عن الحاجة الى انتخاب رئيس جمهورية يكون جزءا من خطة التعافي".

تجتمع في أروقة البرلمان "لويا جيركا"، تجتمع أشياء أخرى، وألعاب تعطيل النصاب، مزايدات شعبوية تجري بالطريقة نفسها. رئيس الجمورية ليس رئيس الموارنة، ولا رئيس المجلس النيابي هو رئيس شيعي، كلاهما حصيلة اتزان البلد وتوازنه. ما يجري زمن هدر الفرص والتسلية، والترف الذهني، في قراءة ما تقوله هذه المادة الدستورية أو تلك. والدستور لا يحترم، ولا يؤخذ به، وموضوعه يطبق بحسن النيات غير المتوفر، أشبه بدعاوى مخاصمة النظام في قضية تفجير مرفأ بيروت، ولا أحد يحكم دستوريا وبلا حكومة.

الحكومة مستقيلة، عربة سياسية معطّلة، تجرّها أحصنة لاهثة في اتجاهات متغايرة، تجري بحمولة عشرات الأطنان من الوزراء الثقيلين. الاستحقاق الدستوري بالنسبة لشعوب مثل شروق الشمس ومغربها إلا في لبنان. هذا إلى جانب الأمور الأخرى اليائسة، مثل مؤشّر السلطان المصرفي الذي ضاعت ودائعه (الكابيتال كونترول). مثل العبث "البريختي"، العدمي في إعلان حكومة حسان دياب إفلاس لبنان. صراع داخلي من أجل الصراع، في أكثريات جامدة (الدستور الإيطالي). مع ذلك إرادة العيش المشترك تحتكم الى الناس، ليس إلى الطبقة السياسية.