العدد 1511 /11-5-2022

 بقلم: يقظان التقي

إذا كانت الديمقراطية هي من الشعب إلى الشعب ومن أجل الشعب. كل النقاش في العملية الانتخابية اللبنانية في 15 مايو/ أيار الحالي يتوقف هنا، لكن الأمور في لبنان ليست كذلك.

تتقدّم الفكرة مع كل دورة انتخابات برلمانية، وتأخذ شعارات تغيير وجودية وكيانية مع احتفالية مرور مائة عام على إنشاء دولة لبنان الكبير (1920)، وتغرق اللبنانيين في تساؤلات سياسية. لكن، في ظل انقساماتٍ تلقي الجميع في واقع لا يستطيع اللبناني أن ينتجه ذاتياً. وهناك مبالغة كبيرة بشأن مسألة الخصوصية في الديمقراطية اللبنانية، واللبنانيون أسرى أساطير وهمية تُستخدم من المجتمع الدولي في مقاربة الوضع اللبناني، وهو واقع ككل مستتبع للخارج.

هي انتخابات شعبية، من ناحية الشكل، على تواصل مع ظاهرة طقوسية اعتاد عليها اللبنانيون في حياتهم السياسية، وتتقاطع بدفاع شرس من بعض الدوائر الخارجية القلقة على "الكيانية اللبنانية"، التي تستعجل إرادوية داخلية لأعمال الإصلاح في بنية النظام اللبناني، على نحو ما يركّز عليه الفرنسيون على وجه التحديد، ومعهم بعض دوائر عربية وغربية، منفتحة على لعب دور إنقاذي أساسي يتوسل الطرق المؤسساتية في إصلاحين، سياسي واجتماعي، يحتاج إليهما لبنان.

رهانات انتخابية تتبع ميزان قوى يعيش فيه اللبنانيون تعبيراتٍ مختلفة، لا تشكل في مجموعها إرادة تغيير على مستوى الإدارة السياسية، في مجتمعٍ يعاني من انهياراتٍ بنيويةٍ على المستويات كافة... انتخابات لا توحي بالأمان، قد تكون قنبلة متفجرة على الطاولة، فيما يبدو الواقع فيه أقوى من الدولة نفسها ومن الأطراف نفسها. انتخابات مفروضة على اللبنانيين بعد مسلسل الانهيارات المالية الكبرى في عام 2019، في واحدة من أسوأ ثلاث أزمات مالية في العالم منذ القرن التاسع عشر، أوصلت البلاد إلى القاع، وبعد انفجار مرفأ بيروت في أغسطس/ آب 2020، والذي تسبّب بأكثر من مائتي وفاة ونحو 6500 إصابة، وتشريد حوالي ثلاثمائة ألف شخص، كما ألحق أضراراً شديدة في المرفأ والمدينة.

الانتخابات تعطيها الأوضاع شرعية، حتى أنّها تشكل مواجهة متأخرة جداً مع الخطر الداهم الذي تمثله طبقة سياسية، ينظر إليها عدوة للشعب اللبناني، وقد أرهقته بأرقام صادمة: 280 مليار دولار ديوناً في عشرين سنة. 30 مليار دولار صرفها حاكم البنك المركزي، رياض سلامة، على دعم الليرة اللبنانية. 40% من الدين العام إنفاق الدولة. 12% من الدين العام ذهب إلى الكهرباء...

... إذاً، السلطة الفعلية في مكان آخر ليس في متناول الناس. الشروط الرئيسية كي تتطوّر الأمور إيجابيا ليست موجودة. المواطنون اللبنانيون المدعوون إلى التصويت يساهمون فقط في إعطاء شرعية لديمقراطية الحكام الذين أفلسوا البلد، فتأتي الانتخابات منهكة ورخوة في ظل مقاطعة هنا، وعزوف أطرافٍ مستقلةٍ هناك، وفشل الشباب اللبناني في برمجة حواراتٍ مع قيادات سياسية أساسية بنّاءة. أصاب البلاد التصحّر السياسي عقودا. والأهم تأتي الانتخابات في نظام سياسي لا يتناسب مع التطلعات الشعبية. قد تشكل الانتخابات استثارة للشعب اللبناني بعودة الصوت إليه، وهو صوت ليس موجودا، مصادر من شعبوية سياسية، تسعى إلى الارتباط مجدّدا مع الشعب، أو الشعوب اللبنانية، في تلاعب إعلامي أكثر سوءا، إعلام رأي يطمس الوقائع على الأرض. انتخابات تفرض على الناس اتخاذ قرارها تحت ضغط الانفعال، أي خارج أي عقلانية.

بالمقارنة العددية، يمثل المقترعون الأغلبية اليوم من فقراء لبنان (80% من فقراء لبنان وأكثر)، كما أن المرشّحين في غالبيتهم رجال أعمال وأغنياء، وهم أقلية بالنسبة للعدد الكبير من الفقراء. مع ذلك، الأغنياء هم الذين يحكمون، وما عادت العملية الانتخابية تمثل الشكل الأعلى للقيم وللممارسة السياسية الأخلاقية عند اللبنانيين. من هنا، خطر فقدان التفكير، في ظل الجوع، في مسألة قرارات مهمة، يشكل خطراً حقيقياً للفصل الصحيح، فنوعية حياة اللبنانيين تدهورت في السنوات الأخيرة، ويشكو فيها اللبنانيون. هذا كله لا يعني أنهم يدركون حيثياتها وأسبابها بالطريقة نفسها.

استخدام القانون الدستوري وإقرار قانون النسبيّة في انتخابات 2018 لم يعزّزا أكثرية وأقلية، في ظل الإصرار على ممارسة الديمقراطية التوافقية، والبيانات الإحصائية شبه المستقلة تتوقع ألا تصل الخروق من وجوه المجتمع المدني، أو من الثوار بعيدا ما بين ثلاثة إلى سبعة أسماء في الحد الأقصى. وليس الدستور اللبناني مصدرا لممارسة السلطة السياسية في لبنان لأنه لا يطاول كل الشعب. هذا التنظيم السياسي لا يفرز مواطنية سياسية، ولا يسمح بمشاركة الجميع في السلطة التمثيلية البائسة، مع وكلاء برلمانيين يمثلون أحزابهم وطوائفهم. عندما تكون هناك سياسية لأحد ما، يعرف ما الذي يمكن أن يحدث. لكن لا سياسة في لبنان. هنا تشير الممارسة السياسية إلى مسألتين: أن القانون الانتخابي الحالي على قاعدة النسبية والصوت التفضيلي، يفرغ العملية الديمقراطية، ويحاصر اللبنانيين في لوائح مغلقة مناطقيا. تشتت لوائح الثورة والمجتمع المدني، فالمسألة تفترض جهوزية عالية غير متوفرة.

يضاف إلى المسألتين تعثر دستور الطائف الذي صدق عليه في 5/11/1989، والذي اعتمد المحافظة وحدة انتخابية، إلى أن يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي. ومن الإصلاحات الأخرى التي جرى التغافل عنها وتجاوزها أيضا اللامركزية الإدارية، ما يعني الإنماء المتوازن الذي بقي حبرا على ورق. وسؤال التنمية هو سؤال الديمقراطية نفسها في المفهومين، الاجتماعي والاقتصادي.

انتخابات مفروضة على الجميع ليست ديمقراطية في ظل الفوارق الاجتماعية في الدوائر والأمكنة المختلفة، حتى الكلام عن معارضةٍ لا يعدو كونه يقود إلى الشكل، فاللبنانيون في اجتماع مشتّت. ما يعني أن الديمقراطية وما تقوم عليه من أسس نظرية ومفاهيم تطبيقية تصبح باطلة، فعملية "تنقية مياه النهر الذي يجتاح المدينة لا تخدم أحداً، إذا كان مصدر النبع ملوثاً" وفساد أركان الطبقة الأوليغارشية المستفيدة من تلوّث الأوضاع السياسية في لبنان فوق الوصف.

حتى داخل العملية الاقتراعية توجد أزمات في عملية الاختيار الشعبي والصوت الحرّ. أليس صحيحاً أنّه في الوقت، حيث يتدخل الخطاب السياسي أو المذهبي أو المالي في السوق الانتخابية، يتحوّل صوت الناخب اللبناني إلى أيدٍ أخرى؟ حتى نتائج التصويت في الاغتراب، يتوقع ألا تعاكس تماما نتائج التصويت في 15 مايو/ أيار المقبل لعدة عوامل معرقلة.

لبنان قريب جدا من الحضيض. ويتلقى اللبنانيون وعوداً كاذبة، في ما يتعلق بتغيير يطرأ على حياتهم المعاصرة. فقط يُدعى الناس إلى ممارسة حق الاقتراع والتصويت. لكنّهم لا يدعَون إلى الحكم. فرضية أنّ الانتخابات المقبلة ستؤدي الى التغيير تشبه تخيلات أرسطو (384 - 322 ق. م) حول "الأخلاق" و"السياسات"، ففي لبنان آلهة سياسية لا تمسّ، ولا تلتقطها الدساتير، ومن الصعوبة إيجاد طريق وسطى بين التطلعات الأوليغارشية للطبقة الحاكمة والمطالبات الديمقراطية لأفقر الناس.