العدد 1461 /12-5-2021

يبدو أن إيقاف انهيارات الليرة في سوريا ولبنان، التي يفلس بسببها العديد من مواطني البلدين، بات من المستحيل مع تواصل الانحدار في العملتين، وتفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية لتشكل فصول قصة كارثية على وشك الحدوث.

أسباب الانهيار المزدوج في الليرتين السورية واللبنانية حددها الكاتب هنري معمارباشي في تقرير نشرته صحيفة "أوريون 21" (Orient XXI) الإلكترونية ومقرها فرنسا، بجفاف مصادر الدخل، وعجز عام متعدد وسحيق، وغياب الحوكمة -إن لم نقل غياب الحكومة-، وفساد منتشر، ونزاعات إقليمية.

ففي الحالة اللبنانية، اعتبر الكاتب أن النظام في بيروت مغال في الليبرالية، وفاسد حتى النخاع وبالطبع موال للغرب، أما في سوريا، فهو ميال أكثر إلى التخطيط مع نوع من التحول إلى الليبرالية -والفساد أيضا- خلال العقود الأخيرة، قبل أن تدمر الحرب التي اندلعت عام 2011 كل شيء.

خلفت هذه الحرب التي دامت عقدا من الزمن جروحا عميقة لا يمكن أن تلتئم بدون مساعدات دولية هائلة؛ لكن هذه المساعدات غير متاحة بسبب العقوبات المالية والاقتصادية الغربية.

ولئن سلك لبنان وسوريا مسارين مختلفين، فهما يشتركان في نقاط عديدة، فللعائلات اللبنانية أقارب سوريون، والعكس صحيح، وقد ساهمت عائلات سورية ثرية في تطوير قطاع مصرفي لبناني كان مزدهرا لمدة طويلة، وأقيمت روابط في قطاع الصناعة، وفي بداية الألفية الثانية، استحوذت البنوك اللبنانية على أسهم، أو أنشأت فروعا تابعة لها في سوريا، حيث بدأ القطاع المالي يعرف تحريرا خجولا.

ويجب التذكير أيضا بأن البلدين كانا يتقاسمان العملة نفسها قبل أن ينشئ لبنان عملته بعد استقلاله في 24 يناير/كانون الثاني 1948، وانقطعت بعد ذلك جميع الروابط القانونية مع قوى الانتداب الفرنسي ومع سوريا، كما قامت الأخيرة بدورها بإلغاء الاتحاد الجمركي بين البلدين عام 1950.

في لبنان، وعلى الرغم من ارتباطه رسميا بالدولار (بسعر1507 ليرات للدولار الواحد قبل الأزمة) كضمانة للاستقرار، لم تتوقف الليرة عن الانحدار منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019 لتصل إلى أدنى المستويات في الأسواق الموازية، ويبلغ انخفاضها حاليا 90%، إذ يصل سعر الصرف في السوق السوداء إلى 15 ألف ليرة للدولار الواحد (مقابل 9800 في يوليو/تموز 2020)، ولا أحد يدري متى سيتوقف هذا الانهيار، لا سيما أن البلاد بدون حكومة منذ أغسطس/آب، كما أدى الانفجار في مرفأ بيروت إلى تدمير حي بأكمله في العاصمة، وإلى استقالة حكومة كانت مكلفة بالشروع في إصلاحات.

وتوجد البنوك التي كانت الرائدة والمحركة للاقتصاد قبل عام 2018 في حالة شبه إفلاس اليوم، وتقوم بشكل غير قانوني بحظر سحب الدولارات من الحسابات المصرفية، أو فقط بكمية محدودة جدا، في اقتصاد يعتمد إلى حد كبير على الدولار وله تبعية بالواردات.

وفي هذا السياق، حذر رئيس الوزراء المنتهية ولايته حسان دياب من أن احتياطيات مصرف لبنان لن تسمح بعد شهر يونيو/حزيران المقبل بتمويل جميع الإعانات (القمح والوقود والأدوية والمعدات الطبية والأغذية).

وما هو مدهش أكثر هو أن البنوك اللبنانية كانت تسبح في الأرباح بفضل ودائع اللبنانيين أنفسهم والمغتربين، ودول الخليج، وسوريا، وبالنسبة لهذه الأخيرة، فقد كان لبنان يشكل في الوقت نفسه صمام أمان وملجأ ومكانا يستطيع من خلاله التجار والصناعيون تنفيذ عملياتهم مع الاستفادة من أسعار الفائدة الجذابة، التي كانت تُقدَّم حتى عام 2019.

كل شيء كان يبدو على ما يرام قبل الغرق والخسارات المتراكمة لمداخيل الدولة اللبنانية، وعجز السلطات النقدية عن سد العجز الضخم في ميزان المدفوعات، الذي ظهر أنه العامل الرئيس للأزمة، ولم تعد العملة الأجنبية تأتي، في حين أن دولا مثل المملكة العربية السعودية أصبحت تتفادى إيداع فوائضها هناك.

في الواقع، تم تشجيع البنوك المحلية نفسها على تقديم أسعار فائدة عالية لزبائنها من مصرف لبنان، الذي كان عليه سد عجز قطاعات الخدمات العمومية، التي تراكمت عليها جبال من الديون (60 مليار دولار)، ولم تُجدِ تحذيرات الخبراء والمؤسسات الدولية نفعا بشأن وضع أصبح لا يُحتمل.

وهكذا، بعد أشهر قليلة من انتفاضة الشارع في خريف 2019 والإجراءات الصارمة للبنوك والمجحفة لمودعيها، حيث تحد من الوصول إلى حساباتهم، أعلن رئيس الوزراء حسان دياب في 7 مارس/آذار 2020 أن الدولة تخلفت لأول مرة في تاريخها عن سد جزء من دينها العام، وقد أرسل بهذا الإعلان إشارة جد سلبية إلى الأسواق المالية.

وأضاف دياب بأن اللبنانيين عاشوا في وهم أن كل شيء على ما يرام، بينما لبنان يغرق في بحر من الديون، وفي الشهر نفسه أعلنت الدولة اللبنانية عن تخلفها عن سداد جميع ديونها بالعملات الأجنبية 35.8 مليار دولار من دين إجمالي يبلغ 95.5 مليارا في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2020.

لقد وصلت الليرة السورية هي الأخرى إلى أدنى مستوياتها التاريخية، ومن المفارقات أن محنتها بدأت مع الانتهاء الرسمي للقتال في 2018-2019، وتراجعت الليرة السورية متأثرة بالأزمة في لبنان، مع مطلع ديسمبر/كانون الأول 2019 إلى ألف ليرة مقابل الدولار الواحد في السوق السوداء، في حين أن السعر الرسمي المنشور على موقع مصرف سوريا هو 434 ليرة للدولار، ولم تصل الليرة في أسوأ أوقات سنوات الحرب المظلمة إلى مثل هذه المستويات المنخفضة في السوق الموازية.

في الواقع، أصبحت مليارات الدولارات للمودعين السوريين محجوزة فجأة في البنوك اللبنانية؛ مما خلق ندرة في الدولارات بالسوق السورية، وتسبب في انهيار الليرة، ويجب التذكير بأن حجم الودائع السورية في البنوك اللبنانية كان يقدر بعدة مليارات من الدولارات، وقد أشار الرئيس السوري بشار الأسد نفسه إلى مبلغ 40 مليار دولار، مع أن الرقم الحقيقي قد يكون أقل من ذلك بكثير.

مهما يكن، ففي بداية شهر أبريل/نيسان الماضي، تم تداول العملة في السوق السوداء بسعر 3700 ليرة للدولار بعد أن تجاوزت عتبة 4700 ليرة سورية مقابل الدولار في 17 مارس/آذار الماضي، أي أقل بـ4 مرات من عامين مضيا، واعتادت دوائر الأعمال السورية على تقلبات عملتها، مبررة ذلك بالتلاعبات.