العدد 1467 /23-6-2021

من حسن البنا والمودودي الى راشد الغنوشي

بقلم: أنور الجمعاوي

نشأت العلمانيّة في السّياق الحضاري الغربي ضمن ظروف تاريخيّة مخصوصة، تمثّلت أساساً في استفراد الكنيسة بالحكم، وحرصها على توجيه سلوك النّاس، وتنميط أعمالهم وأقوالهم، ومحاصرة أفكارهم. وتوسّل الحكّام سلطة البابا في عصور الظّلام ليسيطروا على الفضاء العام باسم الدّين، على نحوٍ تعالت معه السّلطة عن التّاريخ، وأصبح الحكم شأناً مقدّساً، وغدت الكنيسة وصيّاً على الحجر والبشر، بل انصرفت توزّع صكوك الغفران على من دان لها، وصكوك التّكفير على من خرج عنها، وهو ما أنتج حالةً من الرّفض لدى المحكومين، فانتفض النّاس على الحكم الكنسي في ثوراتٍ مختلفة في فرنسا وإنكلترا، وطالبوا بتحييد الكنيسة عن الشّأن العامّ. وواكب ذلك ظهور فلسفة الأنوار التي دعت إلى تقييد سلطات الحاكم، وصياغة عقد اجتماعيّ مدني ينظّم علاقة الحاكم بالمحكوم، ويضمن تحديد صلاحيّات المؤسّسة الدّينيّة، من دون إلغائها بالتّمام من المشهد العمراني، أو إضمار المعاداة لها، فقد كان المراد من العلمانية جعل الدّين مؤسّسةً مستقلّة بذاتها تربطها ببقيّة مؤسّسات المجتمع المدني علاقة تجاورٍ لا علاقة استتباع أو هيمنة. ولم يكن القصد بها تجفيف منابع الدّين أو التّضييق على المتديّنين.

وجايل الإسلاميّون، بدءاً من حسن البنّا وقوفاً عند أبي الأعلى المودودي وصولاً إلى راشد الغنّوشي، واقع انتشار فكرة العلمانيّة في الاجتماع العربي، وفهمها أغلبهم تهديداً لمشروع إقامة الدّولة الإسلاميّة. لذلك، جاءت جلّ طروحاتهم ميّالةً إلى نقض العلمانيّة، واعتبارها سبباً في تأخّر نهضة المسلمين. يقول البنّا في رسائله: "أوّل خطئنا أنّنا (...) فصلنا الدّين عن السّياسة عمليّاً"، معتقداً أنّ "رجال السّياسة قد أفسدوا الذّوق الإسلامي باعتقادهم وإعلانهم وعملهم على أن يباعدوا دائماً بين توجيه الدّين ومقتضيات السّياسة، وهذا أوّل الوهن وأصل الفساد". وذهب المودودي في كتابه "الإسلام والمدنية الحديثة" إلى أنّ "العلمانيّة (..) التي تقصُر العلاقة بين الإله والإنسان على حياة الفرد الخاصّة، وتستبعد هذه العلاقة من الحياة الاجتماعيّة فكرة فارغة"، وهي في نظره تعطّل سلطة الله وتؤسّس لـ"مجتمع إلحاديّ لا دينيّ". وأسّس زعيم الجماعة الإسلاميّة الباكستانيّة على هذا التصوّر حكمه القائل إنّ "الذي يتبنّى العلمانيّة، ويتّخذها نظام حياته ينحدر بنفسه إلى الهاوية، ويصير عبداً لرغباته وأهوائه". أمّا راشد الغنوشي، فيمكن التّمييز بين مرحلتين في مستوى تمثّله علمانيّة الدّولة: مرحلة أولى لازمت بدايات تفكيره السّياسي، واستمرّت حتّى قبل ثورات الرّبيع العربي، وغلب عليها موقفه المتشدّد الرّافض للعلمانيّة، ومرحلة ثانية واكبت إقامته في المنفى وعودته إلى تونس بعد ثورة 2011، وتميّزت بتطوّر فهمه للعلمانيّة، ومحاولته مقاربتها من وجهة نظر تفهّمية تقرّ بإمكان التّعايش مع العلمانيّة والعلمانيّين على كيفٍ مَا. في معرض نقض العلمانيّة، يقول الغنّوشي في كتابه "مقاربات في العلمانيّة والمجتمع المدني": "إنّنا كمسلمين لا نحتاج لهذه العلمانيّة من أجل تحرّر العقول والمجتمعات من الأوهام والتسلّط وتقدّم العلوم والتّقنيات، ففي الإسلام ما يُغني عنها وفي شكل أعمق وأوسع". وعدّ العلمانيّة صنيعةً غربيّةً مسقطةً على الاجتماع العربي، فقد "قدمت إلى بلادنا على ظهر دبّابة، ولا تزال غير قادرة على الحياة إلا في حمايتها". واستشهد على فسادها تاريخيّاً بفشلها في إدارة الواقع العربي بعد الاستعمار وقيامها على التسلّط. واعتبر الغنّوشي الوصل بين تبنّي العلمانيّة والإمساك بناصية الحداثة مغالطةً يُراد بها ضرب الهويّة العربيّة الإسلاميّة، وتحييد الإسلام عن المساهمة في تحقيق نهضة الأمّة "فنحن أُريد لنا أن ننسلخ عن كامل ماضينا وحاضرنا والتّفريط في هويّتنا واستقلالنا حتّى ننال بركة الحداثة كما فهمت في الغرب، وندخل إليها من نفس الباب، أي العلمانيّة، وكأنّ الحداثة لا تأتي إلا ملازمة للعلمنة، ومن بابها الذي دخل منه الغرب. باختصار، إنّه إذا كان الغرب قد تمرّد على الكنيسة والإقطاع سبيلاً إلى الحداثة، فنحن لا بدّ أن نتمرّد على الإسلام وتراثه".

وتطوّر موقف الغنّوشي من العلمانيّة على التّدريج، من الازدراء إلى الاعتدال نظريّاً وعمليّاً. وتجلّى ذلك من خلال دخول حركة النهضة التي يشرف على رئاستها في حواراتٍ مع العلمانيّين، وذلك في إطار مبادرة 18 أكتوبر 2005 للحقوق والحرّيات في تونس، التي هدفت إلى صياغة مشروع توافقٍ بين الفرقاء السياسيّين حول ملامح المجتمع المدني المنشود ومعالم الديمقراطيّة الممكنة. كما بادرت حركة النهضة بعد الثورة إلى الائتلاف مع أحزابٍ علمانيّة لإدارة الحُكم. أمّا نظريّاً، ففارق الغنّوشي في كتاباته الصّادرة أخيراً، نفور الإخوان المسلمين والسلفيّين من العلمانيّة، فرفع عنها شبهة الإلحاد، ونبّه إلى ضرورة فهم الظّاهرة قبل الحكم عليها. يكتب، في مؤلَّفه "الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان في الإسلام" (2012) "العلمانيّة لا تعني بالضّرورة الإلحاد، بقدر ما تعني رفض سلطة رجال الدّين من أجل نقل السّلطة للشّعب، وليس في ذلك ما يُضار الإسلام في شيءٍ من هذا الوجه، فضلاً عن أنّ العلمانيّة التي تعادي الدّين جملةً، وتعمل على تهميشه جملةً، ليست كلّ العلمانيّة، وإنمّا صنف منها هو العلمانيّة الشّاملة وليس الجزئيّة". ومع جرأة الغنّوشي في الدّعوة إلى تفهّم العلمانيّة، والمطالبة بتحرير الدّين من سلطة الدّولة، فإنّه لا يذهب بهذا التوجّه إلى أقصاه، ليُسلّم بإمكانيّة فصل الدّين عن الدّولة. يقول في إحدى محاضراته (2012): "الإسلام، منذ نشأته وعبر امتداده التاريخي، لم يعرف هذا الفصل بين الدّين والدّولة". وعنده "أنّ تحرّر السّياسة من الدّين هو تحويل الدّولة إلى مافيا والاقتصاد في العالم إلى نهب، والسّياسة إلى نوع من الخداع". وبذلك، ركّز الغنّوشي على أهمّية المعطى الأخلاقي الدّيني في توجيه السّلوك العامّ لمؤسّسات الدّولة، وهو معطىً، على أهمّيته، يبقى نسبيّاً، لأنّ استحضاره والتزامه متباينان من شخص إلى آخر، ومن فئة إلى أخرى.

ختاماً، يتبيّن الدارس، من خلال النّظر في تمثّل الإسلاميّين العلمانيّة، أنّهم يرفضون أن تكون علامة واسمة للدّولة المنشودة التي يرومون إنشاءها. فعندهم أنّ شموليّة الإسلام تتعارض مع مبدأ تحييده عن الشّأن السّياسي وعن إدارة مؤسّسات الدولة، غير أنّهم يفترقون من جهة تقويمهم العلمانيّة باعتبارها تصوّراً للحكم، وأداة من أدوات ترتيب العلاقة بين الدّين ومؤسّسات المجتمع المدني، فلئن بدا الغنّوشي معتدلاً إلى حدّ مّا في تمثّله العلمانيّة وتعامله مع العلمانيّين، فإنّ سلفه (البنّا/ المودودي) يقف على حدّ المواجهة مع كلّ تجلّيات العلمانيّة ودلالاتها، ويمكن فهم هذا التوجّه في التّعاطي مع مبدأ علمانيّة الدّولة بإرجاع مواقف أعلام الإسلام السّياسي إلى سياقاتها الثقافيّة والتاريخيّة المخصوص،. فكلّ بيئةٍ ساهمت في تشكيل مقالةٍ من مقالات الإسلاميّين في هويّة الدّولة، فصدور مدوّنة البنّا في عصرٍ آلت فيه الخلافة إلى الانهيار، وتعالت فيه أصوات فصل الدّين عن الدّولة، وظهرت فيه مؤلّفات أوائل العلمانيّين العرب (علي عبد الرّازق، سلامة موسى، شبلي شميل، فرح أنطون...)، واشتدّ فيه الصّراع بين الإصلاحيّتين، السلفيّة والتحديثيّة، دفع بالبنّا إلى مناصرة التيّار الدّاعي إلى رفض العلمانيّة، لأنّه اعتبرها فكراً دخيلاً، يروم نقض مشروع الدّولة الإسلامية.

وفي سياق حضاري آخر، كان المودودي في شبه القارّة الهنديّة ينظّر لإقامة دولة دينيّة في باكستان، تجعل من الشّريعة دستورها، ومن الإسلام دينها، وتعمل على تحكيمه في إدارة كلّ شؤونها العمرانيّة والسياسيّة، وكان يجد تأييداً من جمهور المسلمين الحرصاء على الانفصال عن الهند والخروج عن هيمنة الهندوس بتأسيس دولةٍ إسلاميّةٍ مستقلّة. لذلك، كان تسليمه بتحكيم المرجعيّة الدينيّة في كلّ شيء الدّافع الأساسي لحرصه على نقض العلمانيّة. يُضاف إلى ذلك جميعاً أنّ البنّا والمودودي يرومان بازدراء العلمانيّة احتكار المرجعيّة الدينيّة من ناحية، وتنفير الناس من الإقبال على التيّارات الحزبيّة اليساريّة والليبراليّة، بدعوى أنّها تدين بدين العلمانيّة، وتنادي بفصل الإسلام عن السّياسة.

أمّا راشد الغنّوشي، فقد تشكّلت مقالته في العلمانيّة ضمن سياقاتٍ ثقافيّةٍ وحضاريّة مختلفة، فقد عاش داخل مجتمع متوسّطي، وسطي، تعدّدي، منفتح في تونس أو في المنفى، وجايل نخبةً مثقّفة من التونسيّين الذين تشبّعوا بالثّقافة الغربيّة، وانتمى إلى فضاءٍ عمرانيّ يعتزّ بانفتاحه على الآخر، قدر اعتزازه بالانتماء إلى فضاء الهويّة العربيّة الإسلاميّة. من هنا، كان ميل الغنّوشي إلى لزوم المرونة في التّعاطي مع مسألة العلمانيّة، وسعيه إلى البحث عن أرضية توافق مع العلمانيّين في إدارة المجتمع المدني وحكم الدّولة، وذلك في بلدٍ يعشق التعدّدية، وتقرّ فيه أغلبيّة ساحقة (76%) بعدم ملاءمة الاحتكام إلى نظام سياسي تتنافس فيه الأحزاب الإسلاميّة فقط للواقع التونسي، وذلك بحسب "المؤشّر العربي" الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (2013/2012). ومن ثمّة، فاتّجاه الغنّوشي نحو مهادنة العلمانيّة والعلمانيين على كيفٍ مَا، هو نتيجة وعيه بتطوّرات الظرف التاريخي الذي ينتمي إليه، وإدراكه النسبي ميول الرأي العام في تونس.