العدد 1539 /30-11-2022

عمر كوش

انطلقت مباريات كأس العالم لكرة القدم في دولة قطر، وراح يتابعها، بشغف وانفعال كبيرين، ملايين البشر من جميع الجنسيات والأعراق والديانات والقارّات، سواء من خلال المشاهدة الحيّة للمباريات في ملاعب قطر، أم من خلال مشاهدتها على شاشات التلفزة في البيوت، وفي النوادي الرياضية والمقاهي والمطاعم والساحات العامة، حيث تجتمع جموعٌ غفيرةٌ من عشاق الكرة المستديرة، كي يعيشوا وقائع الحدث الرياضي مع رفقائهم، ويتكلموا لغة كرة القدم التي باتت تشكل لغة مشتركة بين أعداد كبيرة من البشر في مختلف أنحاء العالم، وتثير جملة من المشاعر والعواطف الفردية والجماعية في نفوسهم وعقولهم.

وعلى مدى شهر، ينشغل جمهور الكرة بمتعة مشاهدة لحظات المباريات بحماسٍ كبير، وبمتابعة أحداثها وملابساتها ونتائجها، ليستلب المشهد الرياضي التشاركي عيون مئات ملايين الناس وعقولهم، وذلك بعد أن أسهم النقل الإذاعي والتلفزيوني المباشر للمباريات في كسر حلقة المشاهدة الضيقة، التي كانت تقتصر فقط على من تتوفر له فرصة الذهاب إلى الملاعب، كما ساهم أيضاً في زيادة شعبية كرة القدم، ومعها مختلف المنافسات والفعاليات الرياضية.

ويعتبر اختيار دولة قطر لتنظيم مونديال كرة القدم لعام 2022، للمرّة الأولى في تاريخها وتاريخ البلدان العربية والشرق الأوسط، حدثاً غير عادي، بل تاريخياً، وجاء تكريماً للجهود التي بذلتها، وللتقدّم اللافت في مستوى اللعبة فيها، وذلك بعد أن قيل الكثير عن تهوّر الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) في منح شرف تنظيم هذه الدورة لبلد عربي ينتمي إلى العالم الثالث، وعن تشكيك وتساؤلات بعضهم عن مدى قدرة دولة عربية صغيرة على إدارة حدث كبير بحجم المونديال، وعن توفر الخدمات والمرافق اللازمة لاستضافة جمهور معولم.

كما استثمرت قطر أيضاً ملايين الدولارات على ضيافة وتوفير خدمات لجمهور الكرة، معوّلة على الإيرادات التي سيحققها المونديال، والتي يقدرها الخبراء بحوالي مليار دولار، وعلى رسوم البث التلفزيوني الدولي للمباريات والبالغة 4.7 مليارات دولار، لكنها ستصرف بالمقابل أكثر من مليار ونصف المليار دولار على تكاليف تشغيل الملاعب والمرافق.

وقد واجهت قطر انتقادات كثيرة، قد يكون بعضها مشروعاً، إضافة إلى محاولات التشكيك والهجمات والحملات التي تختلط فيها المصالح بالتوظيفات السياسية، وذلك منذ الإعلان عن فوزها باستضافة المونديال في 2 من كانون الأول 2010 في زيوريخ، حيث وصف الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، قرار الفيفا بأنه "قرار سيئ"، فيما شكك آخرون بقدراتها على التنظيم، وباستيعابها وتقبلها سلوكيات جماهير كرة القدم المرافقة للمباريات، إضافة إلى جماعات المثليين وسوى ذلك.

واستمرت الحملات على قطر حتى بعد أن بدأت مباريات المونديال، منطلقة من المنطق المزدوج ذاته في المعايير والقيم الذي تستخدمه دول الغرب الأوروبي والأطلسي، من أجل تعميم وفرض تصوّراتها للمفاهيم والقيم والمبادئ على باقي دول العالم، فلم تقم وسائل الإعلام التي تشن حملاتها على قطر، ولا الساسة الغربيون، بتنظيم حملات ضد روسيا التي استضافت النسخة السابقة من المونديال، على الرغم من السجل الأسود للنظام البوتيني في مجال حقوق الإنسان، ومن احتلاله جزيرة القرم وسلخها عن أوكرانيا.

وعلى الرغم من ذلك كله، انطلق المونديال، وأتاح للعالم النظر فيما جرى إنجازه من مرافق ومنشآت، وإلى النجاح الذي حققه المنظمون، الذين تمكّنوا من تقديم حفل افتتاح رائع وغير مسبوق في هذه البطولة، وجاء محملاً بالعديد من الرموز ورسائل بالغة الأهمية حول التسامح والتعايش والتفاهم بين الشعوب، حيث أرادت قطر من بهاء وروعة حفل الافتتاح كسر الصور النمطية عن العرب والبلاد العربية، وأن تقنع دول العالم أجمع بأنها دولة يحق لها تنظيم البطولة.

وإذا كانت كرة القدم الحديثة قد نشأت في إنكلترا في القرن التاسع عشر، إلا أنها انتقلت إلى بلداننا العربية خلال الفترة الاستعمارية، حيث كان يمارسها جنود الاحتلال، قبل أن تجذب اهتمام الشعوب العربية، وتستحوذ على اهتمام الكبار والصغار في جميع العالم من بدايات القرن العشرين، وراحت تكتسب تدريجياً شعبيةً متزايدة. وأقيم أول مونديال في باراغواي عام 1930، لكن كرة القدم لم تصبح ظاهرة معولمة إلا في الثلث الأخير من القرن العشرين، حيث كان للتلفزيون وثورة الاتصالات الدور الرئيس في عولمة كرة القدم.

لم تكن منافسات كرة القدم بعيدة عن السياسة خلال مجمل تاريخها الحديث، والأمر نفسه ينطبق على الألعاب الأولمبية، وعلى سائر المنافسات الرياضية. وقديماً تصوّر الإغريق القدامى الرياضة بوصفها حرباً، أو لنقل استمراراً لها، لكنها حرب من دون أسلحة، إذ ليست هناك أرواح تزهق ولا دماء تراق، بل اعتبروها تربية لتعلّم السلام والهدنة والحوار. وفي العصر الحديث، أضحت المنافسات الرياضية مناسبةً مميزةً، تسمح لممثلي دول مختلفة أن يلتقوا ويتواجهوا من غير قتال، لكنها مع ذلك لم تساهم في تقريب السلام في العالم، ولم تساهم أيضاً في منع الحروب والمجازر العديدة في التاريخ الحديث.

في المقابل، وظّفت الرياضة، ومباريات كرة القدم، توظيفاتٍ سياسيةً وإيديولوجية شتّى، ففي فترة الحرب الباردة، كان يحكمها ويوجهها التنافس بين ما كان يُعرف بالمعسكريْن المتصارعيْن، حيث كانت المباريات ساحةً للتعبير عن مدى تفوّق أحد المعسكرين على الخصم الآخر، وبرهاناً على سلامة نظامه السياسي وأهليته.

في المقابل، هناك مواقف أخلاقية وتضامنية لا تُنسى من لاعبين في المنتخبات الوطنية حيال شعوبهم، جديدُها أخيراً الموقف غير المسبوق والشجاع للاعبي المنتخب الإيراني الذين رفضوا ترديد النشيد الإيراني الوطني، اعتراضاً على قمع المحتجين في بلادهم من طرف النظام الإيراني، وتضامناً مع الضحايا، فيما ردد جمهور المدرجات "الموت لخامنئي".

أخيراً، المأمول أن يبقى مونديال كرة القدم نافذةً تطلّ على العالم أجمع، وفرصةً للتلاقي بين شعوب العالم وثقافاته وحضاراته، وأن يشكل مناسبة تساهم في تعلّم كيفية التعايش المشترك، وإرساء السلام، ومحاربة النزعات العنصرية والكراهية والفوقية، وفي تطوير الثقافة الإنسانية، وإبراز كل ما يمكنه أن يشكّل مانعاً يقف في وجه الحملات والمبالغات والتشويهات.