العدد 1507 /6-4-2022

للشيخ عصام تليمة

قضية فوائد البنوك حلال أم حرام؟ هي قضية فقهية علمية في المقام الأول والأخير، يتصدى لها الفقيه المسلم بأدوات المفتي والفقيه، من حيث التصور الصحيح لها، وتكييفها فقهيا، ثم إنزال الحكم الفقهي المناسب لها، دون وضع نتيجة مسبقة للفتوى، وإلا كان كما يطلق عليه العامة في مصر: مفتي ملاكي، أو بالأجرة.

وهي قضية ثارت منذ نشأة البنوك في عالمنا العربي والإسلامي، ولأنها مسألة مستحدثة في صورتها فقط، فليست بخافية على خبرة وعقلية الفقيه المتمرس، فهي واضحة بالنسبة له، وليست المشكلة في أن يفتي الفقيه فيها بحل الفوائد أو حرمتها، فقد قتلها الفقهاء في العصر الحديث بحثا، وكتابة، وتأصيلا.

لكن المشكلة هي دخول مشايخ السلطة الآن بشكل لا يتسم بالعلم، ولا بالأدب الذي لا بد من تحلي أهله به، فرأينا مشايخ السلطة في مصر تخرج بكل تبجح على العلم وأهله، بما لا يتعلق بالفتوى، بل بلغة أمنية، وهي ما أسميه: لغة المباحث، لا لغة الباحث، فالباحث يقول: حلال، أو حرام، لأدلة كذا وكذا، بينما لغة المباحث والأمنجية، تترك النص والدليل، ثم تهرب منه لضعف رأيها إلى مساحة العمالة فتتهم كل من يحرم الفوائد بأنه عميل ضد الوطن، وأنه من الخونة، ومن أعداء مصر!!

إي نعم هكذا قالها الدكتور علي جمعة مفتي مصر السابق، ودلس بشكل آخر الشيخ خالد الجندي، مدعيا أن الموسوعة الفقهية الكويتية تحل فوائد البنوك، ثم ادعى أنه لا يوجد عالم واحد حرمها من علماء الموسوعة الفقهية الكويتية، وهكذا زعم علي جمعة فزاد في نخعه بلغة العامة فقال: الأئمة الأربعة يحلون الفوائد: مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، هكذا بكل جرأة وتبجح، ولا يحرمها إلا أعداء مصر!!

دعك من قرارات المجامع الفقهية المختلفة، داخل وخارج مصر، وداخل وخارج العالم العربي، من مجمع البحوث الإسلامية بمصر، إلى مجمع الفقه بالهند، مرورا بمجمع الفقه الإسلامي بجدة ومكة المكرمة، وغيرها من المجامع العلمية والفقهية، والتي حرمت كلها بإجماع الحاضرين في اجتماعاتها، فهل كل هؤلاء كانوا أعداء لمصر؟!!

هكذا بعقلية الأمنجي يتكلم علي جمعة وخالد الجندي وجل مشايخ السلطة الآن، كل من يخالف فتواهم التي تخرج من الشؤون المعنوية، أو مكاتب الأمن الوطني، فهو عدو للوطن، ولو رجع أي باحث لتاريخ الفتاوى المتعلقة بالفوائد البنكية في مصر فقط، بل في دار الإفتاء نفسها التي كان يتولاها علي جمعة، سيجد جل علماء مصر الذين تولوا الإفتاء يحرمون الفوائد، ولم يجزها أحد قبل الشيخ محمد سيد طنطاوي.

فهل كانت دار الإفتاء المصرية حتى عهد سيد طنطاوي أعداء لمصر، وبيننا وبينك ملفات ودفاتر دار الإفتاء أخرج فتاوى العلماء في الموضوع، فلن تجد أحدا منهم أباح الفوائد قبل طنطاوي، وكلنا يعرف الفيتو المفروض على من يتولى الإفتاء في موقفه من هذه القضية تحديدا.

لقد انتقلت الفتوى على يد علي جمعة وأمثاله من مشايخ السلطة من فتاوى التحليل، إلى فتاوى التحلل، التحلل من الأسس والمناهج العلمية والفقهية، والتحلل من آداب الفتوى، وانتقلت كذلك من مبدأ الإباحة الفقهية، إلى الأباحة الأمنجية،

بل الذي ينساه علي جمعة نفسه أن موقفه القديم ـ قبل موقفه السلطوي ـ كان مع تحريم الفائدة، فهل يعد على جمعة بذلك من أعداء مصر، فقد كتب علي جمعة مقدمة لكتاب دارت فكرته على تحريم الربا، وفي القلب منه: فائدة البنوك، وكتب جمعة مقدمة يثني على الكتاب، ويؤيد موقفه، وأن الخلاص في مشاكل الاقتصاد يكون بالخلاص من منظومة الرأسمالية، والتي قامت على الفوائد والربا، وأنقل هنا عبارات لعلي جمعة يحكم بها على نفسه، إذ يقول عن قيمة الكتاب في أنه تناول:

(قضية الربا بنظرة شمولية، تتناول آثاره العميقة الضرر على جميع مجالات الحياة في الأمة الإسلامية.. وأعلى تلك المجالات وأخطرها هو مجال العقيدة في نفوس المسلمين.

والسبب في ذلك أن الربا (أو الفائدة على رأس المال) يعتبر الركيزة الأساسية في النظام الرأسمالي وتمدها بشرايين الحياة، حيث تنبع من مفهوم المنفعة وتحقيق أقصى ربح ممكن، بصرف النظر عن طرق تحقيق هذا الربح، فالغاية تبرر الوسيلة، ولا يهم إن كانت تلك الوسيلة شريفة أم وضيعة.

أما النظام الإسلامي فهو مختلف في منابعه وتصوراته وأهدافه ووسائله عن ذلك كلية.. والخروج عن ذلك النظام في استثمار الأموال يعتبر خروجا عن مبادئ العقيدة المتكاملة البنيان). انظر كتاب: تحريم الربا ومواجهة تحديات العصر للدكتورة خديجة النبرواي، من مقدمة لعلي جمعة، وهو هنا يجعل من يأكل الربا ومنه الفائدة، بأنه يخرج عن مبادئ العقيدة المتكاملة البنيان.

لقد نقلت كلام علي جمعة بنصه من مقدمة كتاب قدمه بنفسه، وليس نقلا من برنامج، أو قول شفهي له، فيكون من باب التعجل، ولا يستغرب من جمعه والجندي وغيره ممن وقف بجوار سلطة ليبيح لهم قتل البرآء والتنكيل بهم، أن يقف بهم الانحدار في الفتوى عند حياة البشر، لينتقل إلى مال البشر!

لقد انتقلت الفتوى على يد علي جمعة وأمثاله من مشايخ السلطة من فتاوى التحليل، إلى فتاوى التحلل، التحلل من الأسس والمناهج العلمية والفقهية، والتحلل من آداب الفتوى، وانتقلت كذلك من مبدأ الإباحة الفقهية، إلى الأباحة الأمنجية، فمبدأ الإباحة الفقهية، هو مبدأ فقهي معتبر، لكن أن يتحول المفتي أو الشيخ من الإباحة إلى الأباحة، هو للأسف سلوك عدد من مشايخ السلطة الآن!