العدد 1488 /24-11-2021

للدكتور محسن صالح

أثبتت التجربة التاريخية أن تحرير فلسطين ارتبط بالإسلام، منذ الفتح العمري مروراً بالحروب الصليبية ومواجهة التتار إلى وقتنا المعاصر.

لقد فشلت الأيديولوجيات المختلفة التي هيمنت على البيئة العربية والفلسطينية في تاريخنا الحديث، سواء كانت يسارية أم قومية أم قُطرية منغلقة، في أن تقود مشروعاً حقيقياً للتحرير؛ وما زلنا ندفع أثمان مُرَّة للهيمنة الرسمية لهذه الأيديولوجيات.

وبالرغم من أنَّ الاتجاه الإسلامي حُورب بشراسة في المنطقة، وحُرم من وسائل النهضة والتمكين، خصوصاً في البيئة الاستراتيجية المحيطة بفلسطين، فإن الإسلام ظلّ المُحرِّض الرئيس (أو محرضاً رئيساً على الأقل) في ثورات الشعب الفلسطيني ومقاومته وانتفاضاته طوال المائة عام الماضية، بدءاً من انتفاضة القدس 1920، مروراً بهبَّة البراق 1929، وثورة القسام 1935، والثورة الكبرى 1936-1939، ومنظمة الجهاد المقدس، وحرب 1948، والمقاومة في النصف الأول من خمسينيات القرن العشرين، ومعسكرات الشيوخ 1968-1970.. وصولاً إلى الجهاد الإسلامي وحماس، والانتفاضة المباركة 1987-1993، وانتفاضة الأقصى 2000-2005، وحروب غزة.. وغيرها. ومنذ أكثر من عقدين، فإن المقاومة الإسلامية الفلسطينية تمثل العمود الفقري لقوى المقاومة المسلحة في فلسطين.

لا تعارض مع الأبعاد الوطنية والعربية:

ولا تتناقض الرؤية الإسلامية للتحرير مع الأبعاد الوطنية والقومية العربية؛ فالمسلمون أشد إخلاصاً لأوطانهم، فهم مع وطنية الحب والشوق والحنين للأرض، ومع وطنية العزة والكرامة والتحرير، ومع وطنية المجتمع القائم على التعاون والتكافل والتراحم. وفوق ذلك، فإن الحفاظ على الأرض وبذل الدماء والأموال في سبيل تحريرها من الأعداء جزء من عقيدتهم ودينهم.

ولا ينبغي أن يكون ثمة تعارض بين الدائرة العربية والدائرة الإسلامية، فالعرب هم مادة الإسلام، وهم في واقعهم المعاصر وبأغلبيتهم الساحقة مسلمون (بنحو 95 في المائة). وأكثر ما يجمع العرب هو دينهم، ولغتهم التي حفظها القرآن وتراثنا الإسلامي. ومشاريع الوحدة العربية يمكن أن ينظر لها بإيجابية باعتبارها خطوة باتجاه الوحدة الإسلامية، ما دامت تعبّر عن إرادة الشعوب، ومنفتحة لا تقوم على العصبيات والعقليات الإقصائية، ولا على دكتاتورية الأقليات أو الانقلابات العسكرية.

ولذلك، فإن دوائر العمل لفلسطين، سواء كانت وطنية أم عربية أم إسلامية أم إنسانية، هي دوائر متكاملة؛ وينبغي أن يتم تفعيل عناصرها الإيجابية في مشاريع النهضة والتحرير.

مشروع نهضوي مستوعب للأقليات:

كثيراً ما يثير دعاة الأيديولوجيات الأخرى، ورافضو الرؤية الإسلامية، مسألة الأقليات؛ وأن رفع الراية الإسلامية يستثنيها.

وابتداءً، فإن الحل الإسلامي ليس حلاًّ طائفياً ولا عنصرياً ولا انعزالياً. وهو لا يعني ظلماً أو تهميشاً للأقليات، ولا يعني إكراهاً في الدّين؛ بل هو مشروع حضاري نهضوي يتسم بالانفتاح والمرونة، واستيعاب كافة الشرائح والقوى الساعية للإسهام في مشروع التحرير، والتي ستأخذ مواقعها بحسب إخلاصها وكفاءتها.

وثانياً، فما دام الإسلام هو الجامع الأساس للشعب الفلسطيني وللعرب وشعوب الأمة التي تزيد عن مليار و800 مليون، وهو القاسم المشترك الأكبر بين الجميع؛ فلماذا يتم استبعاده لصالح أيديولوجيات لا تجمع أنصاف أو أرباع أو أعشار ما يجمعه الإسلام؟!

وباستخدام القياس ذاته، لماذا (وفق المنظور القومي) يتم تجاوز أبناء القوميات الأخرى في المنطقة العربية كالأكراد والأمازيغ والأفارقة والتركمان، وكلهم مسلمون (ولسانهم عربي)، ونسبتهم أعلى من نسبة أبناء الطوائف والأقليات الأخرى؟

وثالثاً، لماذا يتم الاستغناء عن أكبر قوة دافعة ومحرضة ومُوحّدة للتحرير؛ لصالح أيديولوجيات فشلت في أن تستخرج هذا المخزون الهائل من الطاقة والحيوية في الأمة على مدى السبعين عاماً الماضية؟

لماذا يتم الاستغناء عن أكبر قوة دافعة ومحرضة ومُوحّدة للتحرير؛ لصالح أيديولوجيات فشلت في أن تستخرج هذا المخزون الهائل من الطاقة والحيوية في الأمة على مدى السبعين عاماً الماضية؟

وحتى من ناحية براجماتية عملية، فمن المفترض على المخالفين في الأيديولوجيا أو المختلفين في الدّين، أن يفسحوا المجال للإسلام ورجاله، ما دام ذلك يصب بشكل أفضل في مشروع التحرير.

ثم إن مسيحيي فلسطين (منذ العهدة العُمرية) ومسيحيي الشرق، من ناحية رابعة، اندمجوا في الحضارة الإسلامية وشاركوا في بنائها، وعاشوا أجواء الحرية والتسامح على مدى التاريخ الإسلامي. وأسهموا بقوة في مواجهة الحركة الصهيونية بالكلمة والقلم والبندقية، وعملوا دونما حساسية تحت قيادة مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، وقاتلوا ضمن تشكيلات "الجهاد المقدس" بقيادة عبد القادر الحسيني. وكانوا وما يزالون جزءاً أساسياً من الحركة الوطنية الفلسطينية، وانتخب الكثير منهم حركة حماس لأنها أصدق في التعبير عن تطلعاته وفي مواجهة الاحتلال.

ومن ناحية خامسة، فلا ينبغي الاستشهاد بما استجد على الساحة الإسلامية من اتجاهات وتنظيمات متعصبة للمطالبة باستبعاد الاتجاه الإسلامي؛ لأن الاتجاه العام الساحق في فلسطين والعالم الإسلامي هو اتجاه معتدل متسامح منفتح؛ ولأن الأديان والأيديولوجيات الأخرى فيها من المتعصبين والمتطرفين مثلما يوجد في الحالة الإسلامية أو يزيد، ولا عبرة بالاستثناءات والحالات الشاذة.

تحقيق لوعد الله بالنصر:

من جهة أخرى، فإن تحرير فلسطين مرتبط في الرؤية الإسلامية باستكمال شروط النصر والتمكين، من: حسنِ صلةٍ بالله، وإعداد عناصر القوة "عباداً لنا أولي بأس شديد"؛ والنهوض الحضاري، والمشروع الوحدوي خصوصاً في البيئة الاستراتيجية المحيطة بفلسطين، والقيادة المؤمنة الصادقة، والجاهزية للتضحية والعطاء، وتثبيت أهل فلسطين في أرضهم ودعم صمودهم، والبنى المؤسسية الفعّالة، والقدرة على استيعاب الجميع في مشروع الوحدة والعودة والتحرير.

ويأتي ضمن هذه الرؤية تحقيق لوعد الله بالنصر والتحرير كما جاء في فواتح سورة الإسراء، وكما في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأخيراً، فلا ينبغي لأبناء التيار الإسلامي، وخصوصاً من أبناء فلسطين، أن يترددوا أو يتلجلجوا أو يخجلوا من طرح رؤيتهم الإسلامية بقوة، وأن يقوموا بتنزيل هذه الرؤية على "المشروع الوطني الفلسطيني". وإن الكلام في الشراكة الوطنية لا يعفيهم من طرح تصوراتهم المستندة إلى هويتهم ورسالتهم؛ كما لا ينبغي أن تضيع هويتهم في "مرقة" الكلام عن الوحدة الوطنية (الحفاظ على الكليشيهات، والضياع في التفاصيل). وعليهم أن يُقدِّموا رؤيتهم كرافعة للعمل الفلسطيني، وكمخرج من الأزمة التي تعانيها الأيديولوجيات والمسارات الأخرى، وأن يُقدِّموا خريطة طريق لمشروعهم الإسلامي النهضوي في الوحدة والعودة والتحرير.