العدد 1518 /29-6-2022

الشيخ عصام تليمة

يوم الاثنين الماضي عاشت مصر أحداث جرائم بشعة، كلها تدور حول القتل والذبح، وكان أبشعها قيام طالب جامعي في جامعة المنصورة بذبح طالبة في عرض الطريق، أمام بوابة الجامعة، وقبل أن يدركه أحد من الناس ليمنع الجريمة كان القاتل قد نفذ جريمته، وجاءت الإسعاف والأمن بعد أن قضت الفتاة نحبها.

ومثل هذه الأحداث تطرح أسئلة متكررة: ما السبب وراء هذه الأحداث؟ ولماذا تحول حال المجتمع والشعب المصري بهذا الشكل المخيف، وهو شعب معروف بطيبته وابتعاده في فترات طويلة من حياته عن الجريمة بهذا الشكل البشع؟ فالقتل غالبا ما يكون بين رجلين أو عدة رجال في مشاجرة، لكن مشاجرة شاب مع فتاة ثم ذبحها في الطريق العام، أمر جد على المجتمع، وبخاصة المجتمع الجامعي.

راحت تحليلات تنظر للموضوع بحسب تصورها له، فهناك من تحدث عن أن ثياب الفتيات هو الدافع، وعلى الفتاة أن تكون محافظة في ثيابها، حتى لا يهيج الشاب ويؤدي ذلك للعدوان عليها. وقد قال بذلك عوام من المعلقين على السوشيال ميديا، ثم د. مبروك عطية، في موقف غريب منه، إذ إنه دكتور أزهري جامعي، مما حدا بناشطات حقوقيات للمطالبة بالتحقيق معه، ومنعه من الظهور الإعلامي.

ما السبب وراء هذه الأحداث؟ ولماذا تحول حال المجتمع والشعب المصري بهذا الشكل المخيف، وهو شعب معروف بطيبته وابتعاده في فترات طويلة من حياته عن الجريمة بهذا الشكل البشع؟

وبغض النظر عن خطأ الرجل في كلامه، إلا أن كلامه لا يفهم في سياق التحريض، بل هو سياق التعجل في الحديث كعادة الرجل مؤخرا، ثم تحدثه بما يثير الجدل على عدة مستويات، سواء كانت دينية أو سياسية، مما حدا بشيخ الأزهر للتصريح عكس ما قال الرجل في النظر لثياب المرأة والحكم عليها من خلاله.

والحقيقة أن مثل هذه الجرائم لا يمكن أن تناقش بعيدا عن نظرة كلية للموضوع، فهناك مسؤولية مشتركة بين الجهات المعنية بالأمر، بداية من السلطة التي تحولت الأجهزة الأمنية فيها إلى أمن الحاكم فقط، بدل أن تكون مؤدية لرسالتها وهي أمن المجتمع. ووزارات الداخلية في عالمنا العربي والإسلامي معنية بالمقام الأول بأمن الحاكم، وإن تسمت بعض أقسامها زورا باسم أمن الدولة، والأمن الوطني، فهي أمن الحاكم فقط.

فهذه الأجهزة لو كانت سمعت بمظاهرة تقوم في حارة من حواري مصر الضيقة المجهولة، تجدها قد تواجدت في دقائق معدودة من قيامها، بل ربما لو تنامى لها الخبر قبل قيامها، تجد حشودا هائلة لمنعها، ومطاردة القائمين عليها، بل وإطلاق الرصاص الحي عليهم، في أحداث متكررة وموثقة إعلاميا.

وهناك حادثة في إحدى مدن محافظة الجيزة منذ بضع سنوات، في أكبر شارع فيها، حيث قام لص في وقت الظهيرة بالقفز على سطح منزل، ولما رأته صاحبة المنزل قام بذبحها، فلما صعد للسطح أخوها، باغته اللص وذبحه أيضا. ولم يأت البوليس إلا بعد ساعة تقريبا أو يزيد، بينما كان يجوب شوارع هذه المدينة الضيقة مطاردا المتظاهرين، وتأتي حملات التفتيش حملة تلو الأخرى لمن هرب منهم، فقارن الناس بتلقائية بين التواجد الأمني لكل معارض للنظام، بينما لا يوجد الأمن لأداء وظيفته الأساسية وهي: أمن المجتمع.

وقد أوضح والد فتاة جامعة المنصورة المقتولة، نيرة أشرف، أن القاتل كان من قبل قد أثار مشكلات معهم، وقام الأب بإبلاغ الشرطة، وأقنعه ضابط المباحث بأن يترك الموضوع لهم وسيقومون بإنهائه. وسكت القاتل لفترة، وظن الوالد أن المباحث قامت بدورها معه، ولكن ما اتضح أن الأمن لم يول الموضوع اهتماما يليق به، فلو كان والد الفتاة قد بلّغ عن القاتل بأنه معارض، أو إخوان مسلمين، لنال الأمر اهتماما أكثر من المباحث والأمن بوجه عام!

دار نقاش آخر بأن الفن الهابط الذي بدأ يروج في مسلسلاته وأفلامه للجريمة، وتمجيد البلطجي، سبب مهم لتهئية الأجواء لمثل هذه الجرائم، وانبرى بعض أهل الفن يدافعون عن الفن، بأن الجريمة موجودة منذ قابيل وهابيل، فهل كان وقتها هناك فن يقلده الناس؟ وهو كلام ساذج يخرج من أشخاص يدافعون عن مهنتهم، فلم يقل أحد أن السبب الوحيد للجريمة: الأعمال الفنية.

لكن الحقيقة أن الفن له دور لا ينكره أحد، فالفن مؤثر في الناس سلبا وإيجابا، وهذا أمر يباهي به دائما أهل الفن، وأقر به معظم دارسي علم الاجتماع، ودراسة الجريمة، بل لاحظه المربون. وكان النموذج الأبرز لذلك: مسرحية "مدرسة المشاغبين"، فلم يكن قبلها يمكن لطالب أن يتجرأ على أستاذه، أو يتطاول عليه، أو يمد يده عليه، ولكن بعد هذه المسرحية بدأت ترصد حوادث متكررة، كلها كانت تقليدا للمسرحية، إما بدافع المزاح السخيف، أو بلغة المصريين: الاستظراف، والذي يدخل في باب سوء الأدب مع المعلم.

وقد كان في ثمانينيات القرن الماضي، هناك مسلسل يعرض في مصر، وكان مقتبسا من رواية "مذكرات نائب في الأرياف"، للأديب توفيق الحكيم، ولكن السيناريو جعل أحداثه في العصر الحديث في الريف المعاصر، وكان المسلسل من بطولة الفنان مجدي وهبة وحسن حسني وغيرهما. ولكن بعد عدة حلقات تم منع عرض بقية حلقاته، وكان السبب الذي قيل وقتها: لأن هناك لصوصا في الريف استفادوا من طريقة السرقة، وفوجئ الأمن بتكرار الأحداث وتطابقها مع أحداث المسلسل.

فمشاهد العنف في الأعمال الفنية في مصر في السنوات الأخيرة، هي مشاهد تجرئ الناس على العنف، وتعود عين المواطن عليه، لا ينكر ذلك أحد، سواء كان من باب التقليد، أو المباهاة، في ظل غياب التواجد الأمني في المجتمع. ومن يتواصل مع الناس في مصر، سيجد الشكوى المتكررة، هي انتشار المخدرات في الأحياء، والعنف في المشاجرات بلا سبب منطقي، وغياب الأمن عنها بشكل ملحوظ، وكذلك اتساع رقعة الجريمة، سواء كان تقليدا للمشاهد الفنية، أو لغيرها.

النظرة المنصفة لهذا الحادث وغيره، تشير بأصابع الاتهام إلى عدة جهات، تأتي قي المقدمة منها: السلطة، فهناك غياب لها فيما يتعلق بالمجتمع، وحضور فقط فيما يتعلق بالجباية، وما يتعلق بحفظ وجودها. فهي موجودة فقط من خلال التضييق على معارضيها، والخطاب الديني الرسمي لا يعنى أو يهتم إلا بما يثبت أركان النظام، ويبعد عن الشعب أي تفكير للثورة عليه.

والفن معني بالأعمال التي تشيطن معارضي السلطة، ولا يقدم أعمالا تعالج مشكلات الشعب الحقيقية، سواء الاجتماعية أو غيرها، بل على العكس، يأتي الفن مهيئا لبطش السلطة، كما رأينا في مسلسل "الاختيار 2"، إذ قدم أهل كرداسة والمسجونين في قضايا الانقلاب العسكري في شكل يهيئ المجتمع لأحكام قاسية عليهم، وهو ما حدث، إذ تم تنفيذ أحكام الإعدام بعد عرض المسلسل مباشرة.