العدد 1552 /1-3-2023

سارة مطر

تداول روّاد مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام القليلة الماضية صوراً وفيديوهات تظهر تراجع منسوب مياه البحر الأبيض المتوسط بشكلٍ ملحوظ في عددٍ من الدول. وإذ ربط بعض المغرّدين هذه الظاهرة بزلزالَي الإثنين في السادس من الشهر الجاري في جنوب تركيا وشمال سورية، انهالت التساؤلات حول حقيقة الأمر، ما أثار مخاوف السكان من موجات تسونامي قد تضرب دول حوض المتوسط، وخصوصاً مع استمرار تسجيل هزّاتٍ ارتدادية متكرّرة في المنطقة.

في لبنان، انتشرت مقاطع فيديو تظهر تراجع المياه أمام القلعة البحرية في مدينة صيدا (جنوب البلاد)، وبدا محيطها قاحلاً، ما دفع البعض إلى التعليق بأنّ قلعة صيدا البحرية أصبحت بريّة، وفق ما ذكرت الوكالة الوطنية للإعلام (رسمية). كما أثارت صور انحسار مياه البحر في منطقة عدلون (جنوباً) وظهور تصدّعات في صخور أحد الشواطئ، ضجة كبيرة في البلاد. ونشر آخرون صوراً لتراجع المياه في تركيا وعلى الساحل السوري، لا سيّما في اللاذقية وطرطوس، وكذلك في فلسطين عند شواطئ بعض المدن مثل غزة وعكا. وفي مصر، تحدّثت منشورات عن انحسار مياه البحر عند شواطئ محافظة شمال سيناء، ما أثار الرعب. وفي ليبيا، تداول سكان من مدينة بنغازي مقاطع فيديو تظهر تراجع مياه البحر إلى مسافات غير مسبوقة. وفي الجزائر، انتشرت صور لتراجع مياه البحر في سواحل البلاد. وكذلك الحال قبالة شواطئ تونسية عدة، إذ تداول المغرّدون فيديوهات تتخوّف من تحوّل البحر إلى صحراء. وبرزت إلى الواجهة أخبار عن انخفاضٍ شديد بمستوى المياه في بعض القنوات الشهيرة لمدينة البندقية الإيطالية.

مدّ وجزر

يوضح مدير المركز الوطني لعلوم البحار التابع للمجلس الوطني للبحوث العلمية في لبنان ميلاد فخري، أنّ "البحر عاد ليأخذ مجراه الطبيعي، وعاد منسوب المياه إلى الارتفاع"، قائلاً "إنّها حركة مد وجزر طبيعية غير مخيفة تحصل كلّ يوم وكلّ شهر وكلّ سنة. أحياناً تكون قويّة وأحياناً أخفّ، وحاليّاً فترة الجَزر قويّة، وربّما أقوى من غير سنوات، لكنّها ترتبط بدورة السنوات وعوامل طبيعية. فحركة المد والجَزر مرتبطة بالقمر، وربّما جاذبية القمر أقوى هذه الفترة وتموضع الكواكب متوازٍ وأقرب إلى الأرض. فحدث الجَزر القوي على كلّ الحوض الشرقي للبحر المتوسط، علماً أنّنا في لبنان مثلاً شهدنا مع عدد من الصيّادين والبحّارة وسكان الساحل هكذا ظاهرة منذ نحو 10 سنوات أو 20 سنة، لكن لم تكن حينها تنتشر الصور والفيديوهات، كما هو حاصل اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي. وصادف بروز الظاهرة إلى العلن عقب زلزال تركيا وسورية، وما رافقه من رعب في نفوس الأهالي، كما أنّ الطقس الصافي وغياب الأمطار والعواصف سمح لهم بالخروج والتصوير وإدراك الأمر، لا سيّما في المناطق الضحلة القليلة العمق وعند الموانئ، حيث يظهر انحسار المياه بشكلٍ أكبر".

ويطمئن فخري الناس قائلاً: "لا تسونامي ولا زلزال ولا بركان ولا حفرة تسحب المياه، فالبحر أصلاً مليء بالوديان والحفر. المهم ألّا تحصل حركة فوالق غير طبيعية من زلزال أو هزة قوية في البحر، وهذا احتمال موجود أينما كان حول العالم ويتسبّب بتسونامي، مع العلم أنّ بحرنا مغلق، وتأثير التسونامي في حال حدث يكون أخفّ. فحركة المد والجزر قوية جدّاً في المحيطات، وهناك أماكن تصبح المراكب فيها بلا مياه، حيث يتراجع البحر أحياناً عشرات الأمتار، كما في منطقة سان ميشال في فرنسا".

البندقية

وعن الجدل حول الانحسار الشديد للمياه في البندقية، يكشف فخري أنّها "ليست المرة الأولى التي تعاني فيها مدينة البندقية (فينيسيا) من الجفاف، بل حدث ذلك عام 2018 وفي الوقت الحالي وربما قبل ذلك". ويتحدّث عن عوامل عديدة ومتراكمة أدت إلى الانخفاض الشديد في مستوى المياه في البندقية، من بينها "محدوديّة هطول الأمطار وحركة المد والجزر والضغط الجوي المرتفع الذي أدّى إلى حركة جزر أقوى وخفض سطح المياه. كما أنّ لتراجع مياه البحر المتوسط تأثيره بالطبع، إذ إن المسألة لا تتعلّق فقط بتراجع نسبة تغذية القنوات من الأنهار. والجدير ذكره أنّ حالة الجفاف الراهنة ربّما ستعقبها فيضانات في البندقية في الخريف أو الشتاء المقبلين، كما يحصل أحياناً، لكن ليس بالضرورة أن نشهد فيضانات فوراً بعد هذا الانحسار".

لا خوف

من جهته، يكشف المتخصّص في علوم البحار في الجامعة الأميركية في بيروت، عماد سعود، أنّ "ملاحظاته العلميّة الأوليّة للبحر لم تبيّن الانحسار الكبير، علماً أنّ الحديث عن ظاهرة خارج سياق المد والجزر يتطلّب مراقبة وأبحاثا على مدى 24 ساعة لحسم الأمور، لا الاكتفاء بالتقاط ونشر صور وفيديوهات وقت الجزر، أي وقت تراجع المياه فحسب". ويقول إنّها "مسألة مدّ وجزر بنسبة 90 في المائة، لكن صادف وجود رياح وضغط جوي منخفض على المتوسط أدّى إلى سحب المياه. وحركة المد والجزر حركة طبيعيّة تحصل كلّ سنة، ولا علاقة لها بتسونامي. فالبحر عندما ينحسر، إذا كان هناك تسونامي يعود أعلى ممّا كان عليه بغضون عشر دقائق أو نصف ساعة كحد أقصى بعد الانحسار. وفي حالتنا اليوم لم يحصل ذلك، إنّما انحسر أكثر من ساعة وعاد بشكلٍ طبيعيّ وبموجٍ اعتياديّ. كما أنّ المد والجزر يقوى وينخفض كلّ شهر، ويكون أقوى مع اكتمال القمر. فالجزر يحصل على كلّ الحوض الشرقي للمتوسط ويعود بعد ثلاث ساعات، ويواكب حركة القمر".

ويلفت سعود إلى أنّ "الدول الواقعة على شمال خط الاستواء، ومن ضمنها دول حوض المتوسط، تشهد عادة الفرق الأكبر بين المد والجزر، أي أعلى مد وأدنى جزر في شهر يونيو/ حزيران من كلّ عام، في حين أنّ الحركة تكون أقلّ في شهر ديسمبر/ كانون الأول وتبدأ بالارتفاع كلّ شهر. لكن حصول هذه الظاهرة في شهر فبراير/ شباط ليس مخيفاً. فعندما يكون القمر والأرض والشمس في خطٍ مستقيمٍ، نشهد الكثير من المدّ والجزر". يتابع: "أحياناً تجتمع عوامل عديدة في الوقت ذاته، فيكون الجزر بأقصاه في حال وجود ضغط جوي منخفض في منطقة غرب تركيا على سبيل المثال، وتزامنه مع رياح تضرب الجهة الشمالية أو الشرقية. فالضغط الجوي المنخفض يسحب المياه والرياح تدفع المياه والجزر يسحب المياه. وإذا أدّى كلّ منها إلى سحب خمسة سنتيمترات من مستوى المياه، نشهد انحساراً يقارب 15 إلى 20 سنتيمتراً وتظهر اليابسة".

لا علاقة لتغيّر المناخ

ويشدّد سعود على أنّه "ما من سبب علمي يظهر ارتباط ظاهرة انحسار مياه البحر بزلزالَي تركيا وسوريّة، ولا علاقة على الإطلاق بينهما". يقول: "لن يحصل تسونامي ولا وجود لحفرة تبتلع المياه كما يتمّ التداول، ولا علاقة لتراجع المياه بتغيّر المناخ، إذ إنّ الأخير يتسبّب بارتفاع مستوى البحر لا تراجعه، كوننا نشهد ذوبان الجليد في القطب الشمالي. أمّا البراكين فنحو 99 في المائة منها موجود تحت المياه، وهناك أكثر من ألف بركان حول العالم يعمل بشكلٍ يوميّ في قعر البحار منذ مليارات السنوات. فلا خوف من بركان قادم إلينا".

ويذكّر بأنّ "البحر المتوسط لم يشهد تسونامي جديد منذ ملايين السنوات. ومثلاً بحر لبنان كما هو اليوم صغير جدّاً ليشهد موجات تسونامي. فإذا حصلت يكون طول الموج بين 300 إلى 500 كيلومتر بسرعة تفوق سرعة الطائرة النفاثة، علماً أنّ الموجة العادية التي تضرب شاطئ لبنان طولها ما بين 80 و150 متراً. وفي حال وقعت هزة أرضية على بعد 10 كيلومترات من الشاطئ اللبناني، فالموجة تكون صغيرة لدرجة أنّها لا تسبّب ارتفاعاً في المياه على مستوى لبنان، إنّما ربّما تشكّل خطراً على إيطاليا، حيث أنّ طول الموجة 500 كيلومتر، ولا يرى اللبنانيّون 10 في المائة منها، ويصل عندها ارتفاع الموج في لبنان إلى نصف متر كحد أقصى، ولا تُعدّ تسونامي. بينما إذا حصلت الهزّة الأرضية القويّة في إيطاليا، فسنرى تسونامي كبير في لبنان، علماً أنّ 90 في المائة سيضرب قبرص قبل وصوله إلى لبنان. باختصار، بيروت لن تغرق إذا وقعت هزّة أرضية قويّة قريبة منها. فموجة التسونامي كي تكون عالية وخطرة على بيروت، يجب أن تسبقها هزة بعيدة عن بيروت بنحو 300 كيلومتر فما فوق. والفالق الذي قيل إنّه تسبّب بالهزّتين الأخيرتين على بعد 10 كيلومترات من العاصمة اللبنانية، وقد يسبّب هزة أرضية ربّما تدمّر بيروت، لكنّها لا تسبّب تسونامي. والواقع ذاته ينطبق على دول أخرى". ويختم حديثه قائلاً إن "الفوالق لا تؤثّر على مستوى مياه المتوسط، ولا علاقة لها بالمدّ والجزر. وما نشهده في البندقية كذلك يعود سببه إلى الجفاف نتيجة عدم تساقط الأمطار منذ مدة".