العدد 1464 /2-6-2021

إيناس بوبس

هل جرّبتَ أن تقرأ القرآنَ الكريمَ فلا تفهم معانيه إلّا بعد النَّظرِ إلى ترجمتها المسطورة في الحواشي؟

هل جرّبتَ أن تسمعَ آيةً في خطبة الجمعة فلا تَفْقَه منها شيئًا وتبقى مُترقّبًا لترجمتها من الخطيب حتّى يصلكَ كلامُ الله تعالى؟

هل تخيّلتَ يومًا أن تسمع القرآنَ الكريمَ فلا تفهم ولا تُدرك ولا تَعِي ممّا تسمعه شيئًا أبدًا؟

هل جرّبت أن تستشعر نعمةَ اللُّغةِ التي تُتْقِنُها وتقرأ وتسمعُ آيات الله بها؟

لم يكن هذا الأمر يطرق عقلي بإلحاح من قبل، وإنْ تبادر إلى الأفواهِ من حولي تراءى باهت الملامح، لا معالم واضحة فيه...

لكن شاء القدرُ أن أُعاينَ ذلك بجلاءٍ سافرٍ فأقفَ مَشْدُوهةً لأقول: أيُّ نعمةٍ هذه التي غُبنَّا فيها ولم نُقَدّرْها حقَّ قَدْرِها!

مهما قلت ومهما فكّرت لن تدركَ ما أَعْنِيهِ إلَّا حين تجرّبُ أن تقرأ معاني القرآن مُترجمةً؛ فحِينها فقط ستدركُ كم يفقد غيرُ النَّاطقينَ بالعربيّةِ من جمالياتٍ تتعلَّق بالبلاغة اللُّغوية من جهةٍ والمعنويّة المتعلّقةِ بِسَرْدِ التَّفاصيلِ من جهةٍ أُخرى.

ذات يوم جمعني بمجموعةٍ من غيرِ النَّاطقين بالعربيّة حوارٌ عن قصَّة سيّدنا سليمان عليه السَّلام؛ وحِينها كانت مفاجأتي الأولى؛ إذ تحدَّثنا عن قصَّته مع بلقيس وسار بنا الحديثُ إلى قوله تعالى: ﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا﴾ سورة النمل: 44، فقالت لي إحداهن إنها قرأت قوله تعالى: "وكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيهَا" مترجمًا ونقلته إلى العربية كالآتي: "وجمعت بلقيس تَنَّورتَها (ثوبَها الطَّويل)"...

فسألتها: هل تفهمين هذا المعنى بدون ترجمة؟

فأجابت بالنفي...

وشَتَّانَ ما بين ما يَصِلُ إليك وأنت النَّاطقُ بالعربيّة المُتَشَبِّعُ بِعَبَقِها وسِحْرِها حين تتصوَّر المَشْهَدَ تَصَوُّرًا وتَملأُ فراغاتِه من خَيالك الذَّاتيِّ فَتَفهم منه أنَّها رفعَتْ ثوبَها خَشْيَةَ تَبَلَّلِهِ بالماء الذي ظنَّتْهُ حَقيقيًّا تحتها؛ شَتَّانَ ما بينك وبين مَنْ يحتاج إلى تَبسِيطِ الصُّورةِ ومَلْءِ فَجواتِ الخيالِ بالكلماتِ القريبة إلى الذِّهن حتى يغدوَ أقربَ إلى نثرٍ لا بلاغةَ فيه ولا خيالَ ولا يحملُ بين جَنَباتِهِ أَثيرًا مَمْزوجاً من خَيالِكَ والكَلِمات...

بالنِّسبةِ إلى مُتَكلِّمٍ بالعربيَّة فإنَّ قولَهُ تعالى: "وكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيهَا" كافٍ لِيُخْبِرنا ويَدْفَعَنا للتَّخيُّلِ أنَّها رفعتْ ثوبَها قليلًا فَبَدَتْ ساقاها مُتَوهّمةً وجودَ الماء، ويَنقلُنا الخيالُ من الصّورة الحسيّة إلى الْمُرادِ منها وما تُوصِلُ إليه من مُقْتَضى؛ وهو الدّلالة على ما عاشتْهُ بلقيس من رهبةٍ وخوفٍ وقد تَيقّنتْ أنّها أمام ماءٍ ستخوضُهُ فبانَ لها بعد رَهبتِها أنّ ذلك صَرحٌ ممرّدٌ صُنِعَ لِتَرْجِعَ عن كِبريائِها أمام عَظَمَتِهِ، وذلك ما كان منها فعلًا...

لكن شخصًا أجنبيًا يُجيد العربية ولا يُتقنها إتقانًا فوق الجيد لا تدفعه هذه الآية إلى ما تدفعنا إليه من خَيالٍ وتصويرٍ للمشهد...

وقِسْ على ذلك كثير...

جاءتني يومًا إحدى الطَّالبات بادّعاءٍ قرأتْهُ في مكانٍ ما مَفادُه أنَّ في القرآنِ الكريمِ ما يُخالِف الحَياءَ، وهي على يقينٍ أنَّ ذلك ليس بصوابٍ لكنّها لا تعرف كيف تَدْحَضُه بِمَنطق؛ ومَضْمُونُ ما قَرَأتْهُ يدور حول قولِه تعالَى: ﴿وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا﴾ سورة النَّبأ: 33، فقد قرأتْ في التَّرجمةِ أنَّ المقصودَ ها هنا الفتياتُ الصَّغيراتُ ذواتُ النُّهود!... وما إلى ذلك من وَصْفٍ قرأتْهُ بِلُغتِها الأُمّ فاستغربَتْ كيف يُمكن أنْ يكون في القرآن الكريم كلامٌ مثل هذا!

وقفت مع نفسي لِلَحظاتٍ وتساءلْتُ: كيف أشرح لها أنَّني بوصفي عربيَّةً أرى هذا التَّعبيرَ البلاغيَّ المُتَوَشِّحَ بالكِنايةِ في غاية التَّأدُّبِ والرِّقَّةِ والعُذوبةِ في الوصف والتَّصوير! وكيف أُخبِرُها أنَّ كلمة (كواعب) ليست من الكلمات التي حافظتِ اللُّغةُ على استعمالِها في الحياةِ اليوميَّة؛ وذلك لِلْحفاظِ على رَونَقِها بعيدًا عن الإِسْفافِ والابْتِذالِ، مثل كثيرٍ من كلماتِ اللُّغةِ التي بقيتْ مُستعملةً فصارتْ دالّةً على مَدلولٍ جامدِ بِبُعدٍ واحدٍ لا نكاد نَستعمِلُهُ في مجالِسِنا الرَّاقِيةِ التي نتأدَّبُ فيها بِتَخَيّرِ ألفاظِنا ورفْعِها عن كونِها من المَحْكيِّ المُتَداوَلِ...

كيف أَحْكِي لها عن الكلماتِ التي تدفع بالقارئ العربيِّ حديثِ العَهْدِ بالتَّفسيرِ والمعاني إلى البحث والقراءة والتَّمعُّنِ في المعنى المراد وأسباب تخيّر اللّفظ دون غيره، والبلاغة المتحصّلة منه ومما يخطُّه من صُورٍ ذهنيّةٍ وفَجواتٍ وفراغاتٍ يملؤها القارئُ بنفسِه من خيالِه وتَصَوُّراتِه وتَجارِبِه!

وكيف أُخْبِرُها أنَّ القارئَ المُكتَفِي بالقراءة بعيدًا عن المعاني التي لا تَصِلُه بدون عَناءٍ لن يعرف معنى هذه الكلمة ما لم يعد إلى كتبِ التَّفسيرِ أو اللُّغة أساسًا!

وكيف أَمْنَحُها شعوري بِدَلالةِ اللّفظِ وعُذوبته وشِدَّة عُمْقِهِ في التّعبيرِ ووُضوحِه وجَلائِه!

وهذا كلّه إذا ما أردنا أن نقف عند حدود اللَّفظِ فلا نتجاوزه إلى السّياق العربيّ الذي تُستَعمَلُ فيه الألفاظ... فالعربُ مثلًا حين تَصِفُ المرأةَ بقولِها "الحائض" إنَّما تريد الدَّلالةَ على مرحلة عمريّة مُعيَّنة؛ هي البلوغ.

وكذلك الأمرُ إذا ما جِئنا إلى كلمة "كواعب" التي لا يرادُ بها مَحْضُ الوَصْفِ البَدنيِّ لأجزاءٍ من جسد المرأةِ كما يمكن أن يصلَ إلى مَنْ يتعامل مع معاني القرآنِ الكريمِ مترجمةً ترجمةً حرفيّة، بل المراد منها هو الدَّلالةُ على مرحلةٍ عمريّةٍ من جهةٍ، وصفةٍ نَفْسِيّةٍ في المرأة من جهةٍ أخرى، فهي تدلّ في سياق الآيات في سورة النَّبأ على الفتاةِ طافحةِ الجمالِ المتدفِّقَةِ بالشباب التي تَهْفُو إليها أفئدةُ الرِّجال!

فيا أبناء العربيّة: هلّا نستشعِرُ نعمةَ اللّسانِ العربيّ الذي أنزل به القرآن الكريم للعالمين؟

ألسنا مسؤولين عن تقريبه وتبيانه للسَّائلين كما جاء بجلالٍ وجمالٍ يترك العابر والسَّابر لآياته حيرانَ دهشةً ولَذَّةً وجمالًا!