العدد 1376 / 4-9-2019

محمد أبو الغيط

مثّلت الرسالة التي خرجت من نحو 1300 من أفراد جماعة الإخوان المسلمين في السجون المصرية إلى قيادتهم حجراً كبيراً، في مياه السياسة المصرية الراكدة. أهميتها أنها أول حراك جماعي منظم من داخل السجون، يذكّر بآليات تحرّك الأسرى الفلسطينيين العريقة وأمثالها. ولكن في المقابل، شهدت الرسالة إشكاليات كبيرة تعكس الاستمرار في نقص إدراك الواقع، والارتباك في حسم الخيارات.

أولاً، تتعامل الرسالة وكأن الأولوية هي اقتناع قيادة "الإخوان" بحقيقة أوضاع السجون البعيدة تماما عن شعارات الصمود الأبدي، على الرغم من أن الواقع هو أن الأولوية في اقتناع السلطة الحاكمة في مصر بأهمية القضية، علما أنها مستمرة في القبض على مزيد من المعارضين من مختلف التيارات، وما قضية "تحالف الأمل" منا بعيدة.

في السياسة، لا أحد يمنح خصمه هدايا مجانية، وقد أهدرت الجماعة بالفعل منذ ما قبل "30 يونيو"، صيف 2013 وما بعدها، فرص التفاوض بمعنى الندّية، وأوراق الضغط المتبادلة، وذلك في مناخ إقليمي ودولي أفضل بكثير من الحالي، شمل ذلك مراحل قبل فض الاعتصام في ميدان رابعة وبعده. ولذلك تبقى الأسئلة معلقة: ما هي أوراق الضغط التي لديكم ليقبل خصمكم عرضكم؟ أو ما هي الإغراءات والضمانات التي ستقدمونها ليضمن الخصم استفادته؟ وهنا بوضوح لم يعد الحديث عن تفاوض خصوم سياسيين، بل عن ترتيبات استسلام طرف مهزوم.

ثانيا، لا توضح الرسالة شيئا عن السقف الأدنى المتفق عليه بين من كتبوها لمفهوم "الحل السياسي". هل هو تجميد المشاركة السياسية للجماعة سنوات معينة؟ أم تجميد العمل العام بالكامل بجوانبه الدعوية والخيرية؟ أم هو حل الجماعة تماما؟ أم هو الاعتذار للشعب المصري؟ أم هو تأييد الرئيس عبد الفتاح السيسي وكيْل المديح لمشاريعه وإنجازاته؟ لو افترضنا أن قيادة الجماعة توصلت إلى سقف معين، أيا كان، مع السلطة، من يضمن استجابة الجميع؟

لذلك، كانت الرسالة التالية في صورة مبادرة طرحها بعض الشباب المستقل، هي محاولة جادّة للإجابة، على الرغم من محدودية عدد من طرحوها. وهنا يتم تجاوز وجود قيادة "الإخوان المسلمين" تماما، إلى الحديث باسم السجناء للمطالبة بتعامل على أساس فردي، حيث يتعهد السجين بمقاطعة النشاط العام تماما، والاستجابة لأي ضمانٍ أمني تطلبه السلطة، فضلا عن دفع مبلغ مالي بالدولار لصندوق تحيا مصر. واجهت هذه الأفكار موجة هجوم شرس، من الطرفين.

ثالثا، ينقص الرسالة فهم محدّدات تفكير النظام الحالي وخطوطه الحمر: على سبيل المثال بكل الوساطات التي حدثث بعد فض اعتصام رابعة، تمسّك ممثلو السلطة برفض أي اتفاقية لإطلاق سراح "كل المعتقلين"، بل دائما ما يصمّم على أن يحق له الاستثناءات. وفي إحدى مرات التواصل المبكر، تم نقل رسالة واضحة أن بعض قادة الصف الأول للإخوان المسجونين لن يخرجوا بأي تسويةٍ سياسية.

جانب آخر أن هذه السلطة تنفر ابتداءً من أي حراك جماعي خارجها، أي أن تصوّر وجود 1300 شخص اتفقوا على موقف سياسي يمثل بحد ذاته قرينةً تمنع الموافقة على الطرح الذي تقدّم. أيضاً تم اتخاذ قرار من "مؤسسات الدولة المصرية"، باستغلال الفرصة التاريخية لسحق جماعة الإخوان المسلمين، لن يُسمح بعودة "الإخوان" كما كانوا في عهد حسني مبارك جماعة محظورة نظريا وشرعية عمليا، حيث هناك مقر مكتب الإرشاد، ومرشد عام، ومرشحون برلمانيون يرفعون شعار الإسلام هو الحل، وبالتالي من المستبعد تماما أن تقبل السلطة تفاوضاً سياسياً مع طرفٍ يمثل "الإخوان"، ويظل الملف مسندا للأجهزة الأمنية.

لا يمكن لأحد أن يُملي على السجناء الخيار الأفضل، خصوصا أنه لا أحد يعرف بشكل قاطع الخيار الأفضل أصلا، فضلا عن الشخصية التامة لهذا النوع من الخيارات لكل سجين. ولكن نأمل أن تكون الرسالة هي الخطوة الأولى، وتتبعها خطوات أكثر نضجاً تستكمل المسار، فالحجر حين يغوص في البركة الراكدة سرعان ما تتلاشى دوّاماته كأنها لم تكن.