العدد 1554 /15-3-2023

بقلم : المهدي مبروك

كان من شعارات الثورة التونسية "لا خوف بعد اليوم". وتوهّمنا، نحن التونسيين، في عشريةٍ مضت كلمح البصر، أننا تحرّرنا تماما من الخوف الذي ران على قلوبنا دهرا. تكلم الجميع إلى حد الثرثرة، في فوضى ذلك اللغو الكبير الذي سيّل أنهارا من الحقائق وبحارا من الأكاذيب، حتى غمرت شبكات التواصل الاجتماعي. وكانت إحدى علامات الحرية في ثورتنا المنكوبة القدرة على الكلام، والتي يسمّيها المفكّرون والمشرّعون، والنخب عموما، حرية التعبير أو غيرها من المصطلحات القانونية التي تراكمها الشعوب ويسميها الناس الحقّ في الكلام. لا أحد يدرك أن هذه الحرية بالذات هي التي يستفيد منها عامة الناس ولا تحتكرها النخب. تحدّث الناس في المقاهي، وفي الملاهي والمصانع والمزارع ووسائل النقل، عمّا يعتقدون أن حريتهم أتاحت لهم ذلك. لا يعبّر الناس انطلاقا من الحق في التفكير فحسب، بل أيضا من منطلق الحرية وانتفاء موجبات الخوف، ففي كل الأحوال، لن يكونوا عرضةً للعقاب جرّاء ما قالوا.

قد يرتكب الناس فيما يقولون حماقاتٍ ويعتدون على حقوق غيرهم. ومع ذلك، يعتقدون أنهم تحرّروا من الخوف تحديدا. تستقلّ سيارة التاكسي، وأحيانا يبادرك السائق، من دون مقدّمات أو مبرّرات، بالتعبير عن مواقفه الحادّة من قضية ما، ورأيه في المسؤولين، ولن يتردّد في نعتهم بأبشع النعوت. تدخل المقاهي التي تسيّست وغدت جزءا من الفضاء العام، أين يحلو للجميع النقاش العمومي، حتى إن بعض المقاهي في العاصمة أو غيرها عُرفت بانتماءات مرتاديها: جماعة النهضة، جماعة نداء تونس، جماعات المعارضة بكل أنواعها. تسيّس الفضاء العام، حتى شمل الأعراس والمنتجعات ... فرطُ التسيس هذا لازمته حرّياتٌ عديدةٌ لم يتردّد الناس في الاعتزاز بها باعتبارهم مواطنين أولا، وباعتبار تونس بلد الجميع ثانيا.

لم يخلُ ذلك كله من بعض التجاوزات، ولكن الجميع انتشوا بحرية التعبير واختفاء الخوف من حياة الناس. لا يشعر هؤلاء بأنهم أحرارٌ والخوفُ يلازمهم. نقلت التلفزات ومواقع التواصل الاجتماعي هذا التحرّر الكبير من مشاعر الخوف. كتب الناس على الجدران، رسموا، حبّر المدونون ما شاؤوا، غنّى فنانو الراب ما لم يتجرّأ على قوله أحد من قبل.

صعد الرئيس قيس سعيّد في تلك المناخات المناهضة للحرية والديمقراطية، على أمل أن يحمل معه الرخاء الاقتصادي والاجتماعي، حتى ولو على حساب الديمقرطية والحرية ذاتها. يقول عديدون في بلدي: وماذا استفدنا منها، ماذا نفعل بها؟ ويقصدون الحرية أو الديمقراطية.

انتظر التونسيون خيرا رغيدا، ولكن لا شيء تحقق لهم. تنازلوا عن حرّياتهم من دون أن تتحسّن ظروفهم، بل اختفت مواد غذائية عديدة عدة أشهر وارتفعت الأسعار، حتى تضاعف بعضها في أشهر قليلة، وازدادت الخدمات الاجتماعية للدولة تدهورا وسوءا. كان هناك من يتوهمون أن النظام يقايضهم: الغذاء مقابل الحرية ... مع ذلك لم يحدُث هذا، لقد تنازلوا عن كل تلك الحريات، من دون أن يتحسّن عيشُهم شيئا، بل خسروا الاثنين معا.

ها هو مناخ الخوف يطبق فكّيه على الجميع في تونس. جل قادة الرأي العام من السياسيين، حتى أكثرهم اعتدالا، يُساقون إلى السجون تحت هتافات أنصار سعيّد، وقد أحيوا شعارا صاديا: "اضرب اضرب، إنه ما زال يتنفس". حين يلتقي سعيّد بأنصاره، يردّدون على مسامعه هذا الشعار الموغل في الوحشية. تستفحل لدى التونسيين ثقافة سياسية هي أقرب إلى الغرائز المجيّشة والوحشية. نحن أمام تحوّلات خطيرة في ثقافة الناس، وفي قيم العيش المشترك. علينا أن نعيد قراءة ما جرى مع المهاجرين الأفارقة ألف مرة، حين انطلق موسم صيد المهاجر. الكل يجري وراء الفريسة وسيكون الفائز بالقبض عليه في أعين السلطة بطلا وطنيا. تماما ستتسع مواسم "صيد الخونة و العملاء والمحتكرين والفاسدين والنقابيين والمتحزّبين ... إلخ". سيهرول الجميع للفوز بهذه الفرائس، وسيتم تمزيق أوصال الطريدة على مرأى الجميع. انطلقت حملات المطالبة بمحاكمات شعبية لكل هذه "الوحوش" الحبيسة. والغريب أن بعضا من هؤلاء محامون وسياسيون يتخفّون للتمويه تحت شعار المحاسبة.

لا خوف بعد اليوم .. متى قلنا هذا؟ يبدو أننا هتفنا به منذ قرون خلت ... ثم صوتٌ يتلاشى، وهو بعيد بعيد، كأنه ولد في فجر التاريخ. وقد لا تستعيده حناجرنا مطلقا.