العدد 1549 /8-2-2023

المهدي مبروك

لم يكن للرئيس التونسي، قيس سعيّد، مواقف واضحة من الاتحاد العام التونسي للشغل قبل توليه الرئاسة، كما لم يكن له نشاط نقابي لما كان أستاذاً جامعياً، فلا يُذكر له أي تحرّك نقابي، حتى تلك الإمضاءات البسيطة التي كان يوقعها الجامعيون في صراعاتهم مع وزارة التعليم العالي، أو السلطة عموماً، سواء في قضايا نقابية، على غرار المطالبة ببعض الخدمات والمرافق، أو قضايا سياسية تعلقت بإيقاف بعض الجامعيين أو مصادرة حقوقهم في التعبير والتفكير. ولا نعثر في  تاريخ هذا النضال الذي استمر عقوداً أن مشاركات بارزة كانت للرجل في جلّ تلك الاحتجاجات، ولعل أهمها الإضراب الإداري الذي خاضه الجامعيون سنة 2005، وأدّى إلى إيقاف أجور عديدين منهم، قبل أن يتراجع النظام عن ذلك. وقد توجّه هؤلاء إلى المحكمة الإدارية، دفاعاً عن حقّ الإضراب وأجورهم المقتطعة. وفي المقابل، كان للرئيس نشاط كشفته أرشيفات الصحف الوطنية مع شعبة التعليم العالي، وهي الخلية الحزبية التابعة للتجمّع الدستوري الديمقراطي، حزب زين العابدين بن علي الحاكم آنذاك.

لم يكن الرئيس في "حملته الانتخابية" التي يعرّفها بأنها مجرد حملة تفسيرية قد أثار هذا الأمر. ولم يكن قد أبدى في المناظرة الانتخابية التي جمعته مع غريمه، نبيل القروي، في الدور الثاني أيضاً شيئاً ما تجاه الاتحاد، حتى بدت بعض الأزمات تظهر من حين إلى آخر، خصوصاً بعد استقالة حكومة إلياس الفخفاخ والصراعات الحادّة التي شهدتها الساحة السياسية بعدها، سواء خلال حكومة هشام المشيشي، أو تحت قبّة البرلمان. كان الجميع يشعر آنذاك بأن الأمور تسير في اتجاه غامض، وأنه لا بد من التحرّك، فقدّم الاتحاد العام التونسي للشغل في تشرين الأول 2020 مبادرته التي نشرها في وسائل الإعلام، وهي خريطة طريق صيغت في ما يشبه جدول مهام نصّ على المراحل والمهام والجهات المكلفة تنفيذها.

لم تمض ساعاتٌ على انقلابه، حتى اجتمع الرئيس بقيادات المنظمات المهنيّة، ومنها الأمين العام للاتحاد التونسي العام للشغل، نور الدين الطبوبي. لا ندري ما جرى بينهم تلك الليلة، ولكن ملامح المُستضافين المكفهرّة وتصريحاتهم المقتَضبة للتلفزيون التونسي، وهم في إحدى قاعات قصر قرطاج، توحي أنهم أذعنوا للانخراط في هذا المسار الذي خطّه الرئيس، من دون أدنى تشاور معهم، فقد وضعهم أمام الأمر المقضي. بعد ذلك، أصدرت هذه المنظمات بيانات مساندةٍ، عدّها بعضهم مساندة نقدية، حين طالبوا باحترام وستبدو تباينات الاتحاد مع هذا المسار تظهر تدريجياً، حين لوّح بخيار ثالث، وردّ عليه رئيس الجمهورية بلغةٍ لا تخلو من تهكّم وسخرية، حين قال في كانون الأول 2021: "يقول بتهكّم: "إن أرادوا فليزيدوا صفّاً رابعاً أو خامساً"". وظلت الملاسنات، من حين إلى آخر، تظهر بين سعيّد والطبوبي، غير أن هذه المعارك اللفظية سرعان ما تهدأ.

بعد انعقاد هيئته الإدارية في حزيران 2022، عبّر الاتحاد التونسي للشغل عن تمسّكه بدستور 2014، وأوصى الخبراء الذين جمعهم للهدف الذي لا يحتاج، حسب رأيهم، إلا إلى تعديلاتٍ للنظام السياسي الذي ورد فيه، غير أنه خرج علينا جل أعضاء المكتب التنفيذي في شبكات التواصل الاجتماعي يتباهون بالحبر الذي غمسوا فيه أصابعهم في استفتاء عن دستور الغلبة الذي قاطعته جل النخب السياسية والفكرية  في يوم 25 جويلية 2022 نفسه.

اختار الاتحاد بعد ذلك أن يصعّد خطابه ضد السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اتبعتها رئيسة الحكومة، نجلاء بودن، وهو يعلم جيداً أنها لا تقرّر السياسات، فهي ليست سوى موظفة سامية لدى الرئيس، تنفّذ توجهاته، خصوصاً في مسائل المفاوضات الاجتماعية التي أصدرت فيها منشوراً خاصاً (عدد 20)، حدّ من استفراد الاتحاد بالوزراء في المفاوضات ومركزتها تحت إشراف رئاسة الحكومة، كما عمدت رئيسة الحكومة، أخيراً، إلى تفعيل التعدّدية النقابية، حين استقبلت الأمين العام لاتحاد العمّال، وهو أحد الأعضاء السابقين للاتحاد العام التونسي للشغل، قبل أن يؤسّس تنظيمه الخاص، وتصدر رئاسة الحكومة بعد ذلك بساعات التشريعات الخاصة بالاقتطاع المالي لفائدة المنظمات النقابية، وهي خطوة رأى فيه المتابعون للشأن التونسي ضغطاً على الاتحاد، ووضع حدّ لاحتكاره التمثيل النقابي. جرى ذلك كله، والاتحاد يجمع خبراء مقرّبين إليه من أجل بلورة مبادرة ثانية تجمع مع عمادة المحامين والرابطة التونسية لحقوق الإنسان وجمعيات أخرى على إثر إعلان نتائج الانتخابات التشريعية التي رأى فيها الاتحاد فشلاً ذريعاً لخيارات الرئيس. غير أن ذروة التصعيد التي شهدتها العلاقة بين الرئيس والاتحاد كانت قادمة من ثكنةٍ أمنيةٍ زارها سعيّد في الأسبوع الماضي، والتي، وإن جدّد فيها تأكيده احترام الحق النقابي، فإنه عد قطع الطرق إجراماً يستوجب تطبيق القانون بحقه، بعد هذه التصريحات بساعات يجري توقيف الكاتب العام لنقابة الطرقات السيّارة، وهو الذي كان يستعد لإنجاح إضراب في الأيام القليلة المقبلة.

يرى عديدون أن نذر صراع حادّ بين الرئيس والاتحاد قادم، وهذا، في اعتقاد كاتب هذه السطور، مستبعدٌ لعدة أسباب، فللطرفين خصم واحد "ما زال يتنفس"، رغم كل الإيقافات التي لحقت بعض قياداته والإنهاك الذي أصاب قواعده، فضلاً عن الشيطنة التي أصابته لدى فئات اجتماعية. يرى سعيّد أن في قيادات الاتحاد من هو مستعدٌّ للتنازل حتى عن ثوابته، إذا ما أقدم هو على تفكيك حركة النهضة وتخليصهم منها. قال قبل أيام قليلة عضو في المكتب التنفيذي إن مبادرة الاتحاد التي يعدّ لها لن تتوجّه مطلقاً إلى من يسمّون "25 جويلية" انقلاباً. ومع قصيدة الغزل هذه، لم يلتفت سعيّد لهم، وعدّ بعض نضالاتهم "قطع طريق وإجراماً". أما سعيّد، فانه ما زال يأمل أن يعترف له الاتحاد بقيادة المعركة، وأن لا صوت يعلو فوق صوته، وأن عليه في هذه المعركة المقدّسة أن يوفّر العتاد والوقود، وأدنى واجبه هو الصمت، بما فيه الصمت المطلق عن مطالبه الاجتماعية.

لن يحدُث الصدام في المدى المنظور، فالاتحاد التونسي العام للشغل يصبو إلى أن يكون شريكاً لقيس سعيّد، وليس حريصاً على وضع حدٍّ لقوسي انقلابه، إلا إذا حدثت تطوّراتٌ أخرى، ينهش فيها الاستبداد من لحم الاتحاد.